فصل: بَابُ صَلَاةِ الْمُسَافِرِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح القدير للعاجز الفقير



.بَابُ صَلَاةِ الْمُسَافِرِ:

السَّفَرُ الَّذِي يَتَغَيَّرُ بِهِ الْأَحْكَامُ أَنْ يَقْصِدَ الْإِنْسَانُ مَسِيرَةَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ وَلَيَالِيهَا سَيْرَ الْإِبِلِ وَمَشْيَ الْأَقْدَامِ لِقولهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسلام: «يَمْسَحُ الْمُقِيمُ كَمَالَ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ وَالْمُسَافِرُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَلَيَالِيهَا» عَمَّ بِالرُّخْصَةِ الْجِنْسَ. وَمِنْ ضَرُورَتِهِ عُمُومُ التَّقْدِيرِ وَقَدَّرَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ بِيَوْمَيْنِ وَأَكْثَرِ الْيَوْمِ الثَّالِثِ وَالشَّافِعِيُّ بِيَوْمٍ وَلَيْلَةٍ فِي قول، وَكَفَى بِالسُّنَّةِ حُجَّةً عَلَيْهِمَا (وَالسَّيْرُ الْمَذْكُورُ هُوَ الْوَسَطُ) وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ التَّقْدِيرُ بِالْمَرَاحِلِ وَهُوَ قَرِيبٌ مِنْ الْأَوَّلِ وَلَا مُعْتَبَرَ بِالْفَرَاسِخِ هُوَ الصَّحِيحُ (وَلَا يُعْتَبَرُ السَّيْرُ فِي الْمَاءِ) مَعْنَاهُ لَا يُعْتَبَرُ بِهِ السَّيْرُ فِي الْبَرِّ، فَأَمَّا الْمُعْتَبَرُ فِي الْبَحْرِ فَمَا يَلِيقُ بِحَالِهِ كَمَا فِي الْجَبَلِ.
الشَّرْحُ:
(بَابُ صَلَاةِ الْمُسَافِرِ) السَّفَرُ عَارِضٌ مُكْتَسَبٌ كَالتِّلَاوَةِ إلَّا أَنَّ التِّلَاوَةَ عَارِضٌ هُوَ عِبَادَةٌ فِي نَفْسِهِ إلَّا بِعَارِضٍ، بِخِلَافِ السَّفَرِ فَلِذَا أَخَّرَ هَذَا الْبَابَ عَنْ ذَاكَ وَالسَّفَرُ لُغَةً قَطْعُ الْمَسَافَةِ وَلَيْسَ كُلُّ قَطْعٍ يَتَغَيَّرُ بِهِ الْأَحْكَامُ مِنْ جَوَازِ الْإِفْطَارِ وَقَصْرِ الرُّبَاعِيَّةِ وَمَسْحِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ وَلَيَالِيهَا عَلَى الْخُفِّ فَبَيَّنَ ذَلِكَ السَّفَرَ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِهِ تَغَيُّرُ هَذِهِ الْأَحْكَامِ وَأَخَذَ فِيهِ مَعَ الْمِقْدَارِ الَّذِي ذَكَرَهُ الْقَصْدَ فَأَفَادَ أَنَّهُ لَوْ طَافَ الدُّنْيَا مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ إلَى قَطْعِ مَسِيرَةِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ لَا يَتَرَخَّصُ وَعَلَى هَذَا قَالُوا: أَمِيرٌ خَرَجَ مَعَ جَيْشِهِ فِي طَلَبِ الْعَدُوِّ وَلَمْ يَعْلَمْ أَيْنَ يُدْرِكُهُمْ فَإِنَّهُمْ يُصَلُّونَ صَلَاةَ الْإِقَامَةِ فِي الذَّهَابِ، وَإِنْ طَالَتْ الْمُدَّةُ، وَكَذَا الْمُكْثُ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ أَمَّا فِي الرُّجُوعِ فَإِنْ كَانَ مُدَّةَ سَفَرٍ قَصَرُوا وَلَوْ أَسْلَمَ حَرْبِيٌّ فَعَلِمَ بِهِ أَهْلُ دَارِهِ فَهَرَبَ مِنْهُمْ يُرِيدُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ لَمْ يَصِرْ مُسَافِرًا؟، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمُوا بِهِ أَوْ عَلِمُوا وَلَمْ يَخْشَهُمْ عَلَى نَفْسِهِ فَهُوَ عَلَى إقَامَتِهِ وَعَلَى اعْتِبَارِ الْقَصْدِ تَفَرَّعَ فِي صَبِيٍّ وَنَصْرَانِيٍّ خَرَجَا قَاصِدَيْنِ مَسِيرَةَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فَفِي أَثْنَائِهَا بَلَغَ الصَّبِيُّ وَأَسْلَمَ الْكَافِرُ يَقْصُرُ الَّذِي أَسْلَمَ فِيمَا بَقِيَ وَيُتِمُّ الَّذِي بَلَغَ؛ لِعَدَمِ صِحَّةِ الْقَصْدِ وَالنِّيَّةِ مِنْ الصَّبِيِّ حِينَ أَنْشَأَ السَّفَرَ بِخِلَافِ النَّصْرَانِيِّ، وَالْبَاقِي بَعْدَ صِحَّةِ النِّيَّةِ أَقَلُّ مِنْ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ.
قولهُ: (عَمَّ) أَيْ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالرُّخْصَةِ وَهِيَ مَسْحُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ الْجِنْسَ: أَيْ جِنْسَ الْمُسَافِرِينَ؛ لِأَنَّ اللَّامَ فِي الْمُسَافِرِ لِلِاسْتِغْرَاقِ؛ لِعَدَمِ الْمَعْهُودِ الْمُعَيَّنِ. وَمِنْ ضَرُورَةِ عُمُومِ الرُّخْصَةِ لِلْجِنْسِ حَتَّى أَنَّهُ يَتَمَكَّنُ كُلُّ مُسَافِرٍ مِنْ مَسْحِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ عُمُومُ التَّقْدِيرِ بِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ لِكُلِّ مُسَافِرٍ. فَالْحَاصِلُ أَنَّ كُلَّ مُسَافِرٍ يَمْسَحُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، فَلَوْ كَانَ السَّفَرُ الشَّرْعِيُّ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ لَثَبَتَ مُسَافِرٌ لَا يُمْكِنُهُ مَسْحُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ وَقَدْ كَانَ كُلُّ مُسَافِرٍ يُمْكِنُهُ ذَلِكَ؛ وَلِأَنَّ الرُّخْصَةَ كَانَتْ مُنْتَفِيَةً بِيَقِينٍ فَلَا تَثْبُتُ إلَّا بِتَيَقُّنِ مَا هُوَ سَفَرٌ فِي الشَّرْعِ، وَهُوَ فِيمَا عَيَّنَّاهُ إذْ لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ بِأَكْثَرَ مِنْهُ، لَكِنْ قَدْ يُقَالُ الْمُرَادُ يَمْسَحُ الْمُسَافِرُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إذَا كَانَ سَفَرُهُ يَسْتَوْعِبُهَا فَصَاعِدًا. لَا يُقَالُ: إنَّهُ احْتِمَالٌ يُخَالِفُهُ الظَّاهِرُ فَلَا يُصَارُ إلَيْهِ؛ لِأَنَّا نَقول: قَدْ صَارُوا إلَيْهِ عَلَى مَا ذَكَرُوا مِنْ أَنَّ الْمُسَافِرَ إذَا بَكَّرَ فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ وَمَشَى إلَى وَقْتِ الزَّوَالِ حَتَّى بَلَغَ الْمَرْحَلَةَ فَنَزَلَ بِهَا لِلِاسْتِرَاحَةِ وَبَاتَ فِيهَا ثُمَّ بَكَّرَ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي وَمَشَى إلَى مَا بَعْدَ الزَّوَالِ وَنَزَلَ ثُمَّ بَكَّرَ فِي الثَّالِثِ وَمَشَى إلَى الزَّوَالِ فَبَلَغَ الْمَقْصِدَ، قَالَ السَّرَخْسِيُّ: الصَّحِيحُ أَنَّهُ يَصِيرُ مُسَافِرًا عِنْدَ النِّيَّةِ، وَعَلَى هَذَا خَرَجَ الْحَدِيثُ إلَى غَيْرِ الِاحْتِمَالِ الْمَذْكُورِ، وَإِنْ قَالُوا بَقِيَّةُ كُلِّ يَوْمٍ مُلْحَقَةٌ بِالْمُنْقَضِي مِنْهُ لِلْعِلْمِ بِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ تَخَلُّلِ الِاسْتِرَاحَاتِ؛ لِتَعَذُّرِ مُوَاصَلَةِ السَّيْرِ لَا يَخْرُجُ بِذَلِكَ مِنْ أَنَّ مُسَافِرًا مَسَحَ أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، فَإِنَّ عَصْرَ الْيَوْمِ الثَّالِثِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ لَا يَمْسَحُ فِيهِ فَلَيْسَ تَمَامُ الْيَوْمِ الثَّالِثِ مُلْحَقًا بِأَوَّلِهِ شَرْعًا حَيْثُ لَمْ تَثْبُتْ فِيهِ رُخْصَةُ السَّفَرِ وَلَا هُوَ سَفَرٌ حَقِيقَةً، فَظَهَرَ أَنَّهُ إنَّمَا يَمْسَحُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ شَرْعًا إذَا كَانَ سَفَرُهُ ثَلَاثَةً، وَهُوَ عَيْنُ الِاحْتِمَالِ الْمَذْكُورِ مِنْ أَنَّ بَعْضَ الْمُسَافِرِينَ لَا يَمْسَحُهَا وَآلَ إلَى قول أَبِي يُوسُفَ، وَلَا مُخَلِّصَ إلَّا بِمَنْعِ صِحَّةِ هَذَا الْقول وَاخْتِيَارِ مُقَابِلِهِ، وَإِنْ صَحَّحَهُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ. وَعَلَى هَذَا نَقول: لَا يَقْصُرُ هَذَا الْمُسَافِرُ، وَأَنَا لَا أَقول بِاخْتِيَارِ مُقَابِلِهِ بَلْ إنَّهُ لَا مُخَلِّصَ مِنْ الَّذِي أَوْرَدْنَاهُ إلَّا بِهِ، وَأَوْرَدَ أَنَّ لُزُومَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي السَّفَرِ هُوَ عَلَى تَقْدِيرِهَا ظَرْفًا لِيَمْسَحَ، وَلِمَ لَا يَجُوزُ كَوْنُهَا ظَرْفًا لِمُسَافِرٍ، وَالْمَعْنَى الْمُسَافِرُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ يَمْسَحُ، وَإِنَّهُ لَا يَنْفِي تَحَقُّقُ مُسَافِرٍ فِي أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثَةٍ فَيَقْصُرُ مُسَافِرُ أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثَةٍ؛ لِأَنَّ مَنَاطَ رُخْصَةِ الْقَصْرِ السَّفَرُ، وَلَمْ يَتَحَقَّقْ بَعْدُ نَقْلٌ فِيهِ، وَلَا إجْرَاءُ حُكْمِ الرُّخْصَةِ، وَيَدُلُّ عَلَى الْقَصْرِ لِمُسَافِرِ أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثَةٍ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «يَا أَهْلَ مَكَّةَ لَا تَقْصُرُوا فِي أَدْنَى مِنْ أَرْبَعَةِ بُرُدٍ مِنْ مَكَّةَ إلَى عُسْفَانَ» فَإِنَّهُ يُفِيدُ الْقَصْرَ فِي الْأَرْبَعَةِ بُرُدٍ، وَهِيَ تُقْطَعُ فِي أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ. وَأُجِيبَ بِضَعْفِ الْحَدِيثِ لِضَعْفِ رَاوِيهِ عَبْدِ الْوَهَّابِ بْنِ مُجَاهِدٍ فَبَقِيَ قَصْرُ الْأَقَلِّ بِلَا دَلِيلٍ. وَلَوْ سَلِمَ فَهُوَ اسْتِدْلَالٌ بِالْمَفْهُومِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْقَصْرَ فِي أَرْبَعَةِ بُرُدٍ أَوْ أَكْثَرَ إذَا كَانَ قَطْعُهَا فِي أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثَةٍ إنَّمَا ثَبَتَ بِمَفْهُومِ لَا تَقْصُرُوا فِي أَقَلَّ مِنْ أَرْبَعَةٍ بُرُدٍ. فَإِنْ قِيلَ: لَازَمَ جَعْلَهُ ظَرْفًا لِمُسَافِرٍ كَمَا هُوَ جَوَازُ مَسْحِ الْأَقَلِّ كَذَلِكَ هُوَ يَقْتَضِي جَوَازَ مَسْحِ الْمُسَافِرِ دَائِمًا مَا دَامَ مُسَافِرًا. فَإِنْ تَمَّ مَا ذُكِرَ جَوَابًا عَنْ ذَلِكَ اللَّازِمِ بَقِيَ هَذَا مُحْتَاجًا إلَى الْجَوَابِ. فَالْجَوَابُ أَنَّ بَقِيَّةَ الْحَدِيثِ لَمَّا كَانَ أَنَّ الْمُقِيمَ يَمْسَحُ يَوْمًا وَلَيْلَةً بَطَلَ كَوْنُهَا ظَرْفًا لِلْمُسَافِرِ، وَإِلَّا لَزِمَ اتِّحَادُ حُكْمِ السَّفَرِ وَالْإِقَامَةِ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ، وَهِيَ صُورَةُ مُسَافِرِ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَمْسَحُ يَوْمًا وَلَيْلَةً، وَهُوَ مَعْلُومُ الْبُطْلَانِ لِلْعِلْمِ بِفَرْقِ الشَّرْعِ بَيْنَ الْمُسَافِرِ وَالْمُقِيمِ، وَيُؤَيِّدُ كَوْنَهُ ظَرْفًا؛ لِيَمْسَحَ أَنَّ السَّوْقَ لَيْسَ إلَّا لِبَيَانِ كَمِّيَّةِ مَسْحِ الْمُسَافِرِ لَا لِإِطْلَاقِهِ، وَعَلَى تَقْدِيرِ كَوْنِ الظَّرْفِ لِمُسَافِرٍ يَكُونُ يَمْسَحُ مُطْلَقًا وَلَيْسَ بِمَقْصُودٍ.
قولهُ: (وَالسَّيْرُ الْمَذْكُورُ إلَخْ) إشَارَةٌ إلَى سَيْرِ الْإِبِلِ وَمَشْيِ الْأَقْدَامِ، فَيَدْخُلُ سَيْرُ الْبَقَرِ يَجُرُّ الْعَجَلَةَ وَنَحْوُهُ.
قولهُ: (هُوَ الصَّحِيحُ) احْتِرَازٌ عَمَّا قِيلَ يُقَدَّرُ بِهَا فَقِيلَ بِأَحَدٍ وَعِشْرِينَ فَرْسَخًا، وَقِيلَ بِثَمَانِيَةَ عَشَرَ، وَقِيلَ بِخَمْسَةَ عَشَرَ، وَكُلُّ مَنْ قَدَّرَ بِقَدْرِ مَا اعْتَقَدَ أَنَّهُ مَسِيرَةُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، وَإِنَّمَا كَانَ الصَّحِيحُ أَنْ لَا تُقَدَّرَ بِهَا؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ الطَّرِيقُ وَعْرًا بِحَيْثُ يَقْطَعُ فِي ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ أَقَلَّ مِنْ خَمْسَةَ عَشَرَ فَرْسَخًا قَصَرَ بِالنَّصِّ. وَعَلَى التَّقْدِيرِ بِأَحَدِ هَذِهِ التَّقْدِيرَاتِ لَا يَقْصُرُ فَيُعَارِضُ النَّصَّ فَلَا يُعْتَبَرُ سِوَى سَيْرِ الثَّلَاثَةِ، وَعَلَى اعْتِبَارِ سَيْرِ الثَّلَاثَةِ بِمَشْيِ الْأَقْدَامِ لَوْ سَارَهَا مُسْتَعْجِلٌ كَالْبَرِيدِ فِي يَوْمٍ قَصَرَ فِيهِ وَأَفْطَرَ لِتَحَقُّقِ سَبَبِ الرُّخْصَةِ وَهُوَ قَطْعُ مَسَافَةِ ثَلَاثَةٍ بِسَيْرِ الْإِبِلِ وَمَشْيِ الْأَقْدَامِ، كَذَا ذَكَرَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ، وَهُوَ أَيْضًا مِمَّا يُقَوِّي الْإِشْكَالَ الَّذِي قُلْنَاهُ، وَلَا مُخَلِّصَ إلَّا أَنْ يُمْنَعَ قَصْرُ مُسَافِرِ يَوْمٍ وَاحِدٍ، وَإِنْ قَطَعَ فِيهِ مَسِيرَةَ أَيَّامٍ، وَإِلَّا لَزِمَ الْقَصْرُ لَوْ قَطَعَهَا فِي سَاعَةٍ صَغِيرَةٍ كَقَدْرِ دَرَجَةٍ كَمَا لَوْ كَانَ صَاحِبَ كَرَامَةِ الطَّيِّ؛ لِأَنَّهُ يُصَدَّقُ عَلَيْهِ أَنَّهُ قَطَعَ مَسَافَةَ ثَلَاثَةٍ بِسَيْرِ الْإِبِلِ وَهُوَ بَعِيدُ الِانْتِفَاءِ مَظِنَّةَ الْمَشَقَّةِ وَهِيَ الْعِلَّةُ: أَعْنِي التَّقْدِيرَ بِسَيْرِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ أَوْ أَكْثَرِهَا؛ لِأَنَّهَا الْمَجْعُولَةُ مَظِنَّةً لِلْحُكْمِ بِالنَّصِّ الْمُقْتَضِي أَنَّ كُلَّ مُسَافِرٍ يَتَمَكَّنُ مِنْ مَسْحِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، غَيْرَ أَنَّ الْأَكْثَرَ يُقَامُ مَقَامَ الْكُلِّ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ، وَعَلَيْهِ ذَلِكَ الْفَرْعُ وَهُوَ مَا إذَا وَصَلَ عِنْدَ الزَّوَالِ مِنْ الْيَوْمِ الثَّالِثِ إلَى الْمَقْصِدِ، فَلَوْ صَحَّ تَفْرِيعُهُمْ جَوَازَ التَّرَخُّصِ مَعَ سَيْرِ يَوْمٍ وَاحِدٍ إذَا قَطَعَ فِيهِ قَدْرَ ثَلَاثَةٍ بِسَيْرِ الْإِبِلِ بَطَلَ الدَّلِيلُ، وَلَا دَلِيلَ غَيْرُهُ فِي تَقْدِيرِهِمْ أَدْنَى مُدَّةِ السَّفَرِ فَيَبْطُلُ أَصْلُ الْحُكْمِ: أَعْنِي تَقْدِيرَهُمْ أَدْنَى السَّفَرِ الَّذِي يَتَرَخَّصُ فِيهِ بِثَلَاثَةٍ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
قولهُ: (فِيمَا يَلِيقُ بِحَالِهِ) وَهُوَ أَنْ تَكُونَ مَسَافَةُ ثَلَاثَةٍ فِيهِ إذَا كَانَتْ الرِّيَاحُ مُعْتَدِلَةً، وَإِنْ كَانَتْ تِلْكَ الْمَسَافَةُ بِحَيْثُ تُقْطَعُ فِي الْبَرِّ بِيَوْمٍ كَمَا فِي الْجَبَلِ يُعْتَبَرُ كَوْنُهُ مِنْ طَرِيقِ الْجَبَلِ بِالسَّيْرِ الْوَسَطِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَلَوْ كَانَتْ تُقْطَعُ مِنْ طَرِيقِ السَّهْلِ بِيَوْمٍ فَالْحَاصِلُ أَنْ تُعْتَبَرَ الْمُدَّةُ فِي أَيِّ طَرِيقٍ أَخَذَ فِيهِ.

متن الهداية:
قالَ: (وَفَرْضُ الْمُسَافِرِ فِي الرُّبَاعِيَّةِ رَكْعَتَانِ لَا يَزِيدُ عَلَيْهِمَا) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فَرْضُهُ الْأَرْبَعُ وَالْقَصْرُ رُخْصَةٌ اعْتِبَارًا بِالصَّوْمِ. وَلَنَا أَنَّ الشَّفْعَ الثَّانِيَ لَا يُقْضَى وَلَا يُؤْثَمُ عَلَى تَرْكِهِ، وَهَذَا آيَةُ النَّافِلَةِ بِخِلَافِ الصَّوْمِ؛ لِأَنَّهُ يُقْضَى (وَإِنْ صَلَّى أَرْبَعًا وَقَعَدَ فِي الثَّانِيَةِ قَدْرَ التَّشَهُّدِ أَجْزَأَتْهُ الْأُولَيَانِ عَنْ الْفَرْضِ وَالْأُخْرَيَاتُ لَهُ نَافِلَةٌ) اعْتِبَارًا بِالْفَجْرِ، وَيَصِيرُ مُسِيئًا لِتَأْخِيرِ السَّلَامِ (وَإِنْ لَمْ يَقْعُدْ فِي الثَّانِيَةِ قَدْرَهَا بَطَلَتْ)؛ لِاخْتِلَاطِ النَّافِلَةِ بِهَا قَبْلَ إكْمَالِ أَرْكَانِهَا.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَهَذَا آيَةُ النَّافِلَةِ) يَعْنِي لَيْسَ مَعْنَى كَوْنِ الْفِعْلِ فَرْضًا إلَّا كَوْنَهُ مَطْلُوبًا أَلْبَتَّةَ قَطْعًا أَوْ ظَنًّا عَلَى الْخِلَافِ الِاصْطِلَاحِيِّ، فَإِثْبَاتُ التَّخْيِيرِ بَيْنَ أَدَائِهِ وَتَرْكِهِ رُخْصَةٌ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ لَيْسَ حَقِيقَتُهُ إلَّا نَفْيَ افْتِرَاضِهِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ لِلْمُنَافَاةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَفْهُومِ الْفَرْضِ، فَيَلْزَمُ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ ثُبُوتَ التَّرَخُّصِ مَعَ قِيَامِ الِافْتِرَاضِ لَا يُتَصَوَّرُ إلَّا فِي التَّأْخِيرِ وَنَحْوِهِ مِنْ عَدَمِ إلْزَامِ بَعْضِ الْكَيْفِيَّاتِ الَّتِي عُهِدَتْ لَازِمَةً فِي الْفَرْضِ، وَهَذَا الْمَعْنَى قَطْعِيٌّ فِي الْإِسْقَاطِ فَيَلْزَمُ كَوْنُ الْفَرْضِ مَا بَقِيَ، بِخِلَافِ الْفَقِيرِ إذَا حَجَّ حَيْثُ يَقَعُ عَنْ الْفَرْضِ إنْ لَمْ يَنْوِ النَّفَلَ مَعَ أَنَّهُ لَا يَأْثَمُ بِتَرْكِهِ؛ لِأَنَّهُ اُفْتُرِضَ عَلَيْهِ حِينَ صَارَ دَاخِلَ الْمَوَاقِيتِ. وَأَمَّا وُقُوعُ الزَّائِدِ عَلَى الْقِرَاءَةِ الْمَسْنُونَةِ فَرْضًا لَا نَفْلًا مَعَ أَنَّهُ لَا يَأْثَمُ بِتَرْكِهَا فَجَوَابُهُ مَا سَلَفَ فِي فَصْلِ الْقِرَاءَةِ مِنْ أَنَّ الْوَاجِبَ أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ فَارْجِعْ إلَيْهِ، هَذَا وَفِيهِ حَدِيثُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فِي الصَّحِيحَيْنِ قَالت: «فُرِضَتْ الصَّلَاةُ رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ فَأُقِرَّتْ صَلَاةُ السَّفَرِ وَزِيدَ فِي صَلَاةِ الْحَضَرِ» وَفِي لَفْظٍ قَالت: «فَرَضَ اللَّهُ الصَّلَاةَ حِينَ فَرَضَهَا رَكْعَتَيْنِ أَتَمَّهَا فِي الْحَضَرِ وَأُقِرَّتْ صَلَاةُ السَّفَرِ عَلَى الْفَرِيضَةِ الْأُولَى» زَادَ فِي لَفْظٍ قَالَ الزُّهْرِيُّ: قُلْت لِعُرْوَةِ: فَمَا بَالُ عَائِشَةَ تُتِمُّ فِي السَّفَرِ قَالَ: إنَّهَا تَأَوَّلَتْ كَمَا تَأَوَّلَ عُثْمَانُ.
وَفِي لَفْظٍ لِلْبُخَارِيِّ قَالت: «فُرِضَتْ الصَّلَاةُ رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ هَاجَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَفُرِضَتْ أَرْبَعًا، فَتُرِكَتْ صَلَاةُ السَّفَرِ عَلَى الْأَوَّلِ» ذَكَرَهُ فِي بَابِ مِنْ أَيْنَ أَرَّخُوا التَّارِيخَ. وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ تَرُدُّ قول مَنْ قَالَ: إنَّ زِيَادَةَ صَلَاةِ الْحَضَرِ كَانَتْ قَبْلَ الْهِجْرَةِ، وَهَذَا وَإِنْ كَانَ مَوْقُوفًا فَيَجِبُ حَمْلُهُ عَلَى السَّمَاعِ؛ لِأَنَّ أَعْدَادَ الرَّكَعَاتِ لَا يُتَكَلَّمُ فِيهَا بِالرَّأْيِ، وَكَوْنُ عَائِشَةَ تُتِمُّ لَا يُنَافِي مَا قُلْنَا: إذْ الْكَلَامُ فِي أَنَّ الْفَرْضَ كَمْ هُوَ لَا فِي جَوَازِ إتْمَامِ أَرْبَعٍ فَإِنَّا نَقول: إذَا أَتَمَّ كَانَتْ الْأُخْرَيَانِ نَافِلَةً، لَكِنْ فِيهِ أَنَّ الْمَسْنُونَ فِي النَّفْلِ عَدَمُ بِنَائِهِ عَلَى تَحْرِيمَةِ الْفَرْضِ، فَلَمْ تَكُنْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا تُوَاظِبُ عَلَى خِلَافِ السُّنَّةِ فِي السَّفَرِ، فَالظَّاهِرُ أَنَّ وَصْلَهَا بِنَاءً عَلَى اعْتِقَادِ وُقُوعِ الْكُلِّ فَرْضًا فَلْيُحْمَلْ عَلَى أَنَّهُ حَدَثَ لَهَا تَرَدُّدٌ أَوْ ظَنٌّ فِي أَنَّ جَعْلَهَا رَكْعَتَيْنِ لِلْمُسَافِرِ مُقَيَّدٌ بِحَرَجِهِ بِالْإِتْمَامِ، يَدُلُّ عَلَيْهِ مَا أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ أَوْ الدَّارَقُطْنِيُّ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا «أَنَّهَا كَانَتْ تُصَلِّي فِي السَّفَرِ أَرْبَعًا، فَقُلْت لَهَا لَوْ صَلَّيْت رَكْعَتَيْنِ، فَقَالَتْ: يَا ابْنَ أُخْتِي إنَّهُ لَا يَشُقُّ عَلَيَّ» وَهَذَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ هُوَ الْمُرَادُ مِنْ قول عُرْوَةَ: إنَّهَا تَأَوَّلَتْ: أَيْ تَأَوَّلَتْ أَنَّ الْإِسْقَاطَ مَعَ الْحَرَجِ، لَا أَنَّ الرُّخْصَةَ فِي التَّخْيِيرِ بَيْنَ الْأَدَاءِ وَالتَّرْكِ مَعَ بَقَاءِ الِافْتِرَاضِ فِي الْمُخَيَّرِ فِي أَدَائِهِ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَعْقول. هَذَا مَا فِي كُتُبِ الْحَدِيثِ، وَأَمَّا الْمَذْكُورُ فِي بَعْضِ كُتُبِ الْفِقْهِ مِنْ أَنَّهَا كَانَتْ لَا تَعُدُّ نَفْسَهَا مُسَافِرَةً بَلْ حَيْثُ حَلَّتْ كَانَتْ مُقِيمَةً، وَنُقِلَ قولهَا «أَنَا أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ فَحَيْثُ حَلَلْت فَهُوَ دَارِي» لَمَّا سُئِلَتْ عَنْ ذَلِكَ فَبَعِيدٌ، وَيَقْتَضِي أَنْ لَا يَتَحَقَّقَ لَهَا سَفَرٌ أَبَدًا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، وَلِذَا كَانَ الْمَرْوِيُّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُوَاظَبَةَ عَلَى الْقَصْرِ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: صَحِبْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي السَّفَرِ فَلَمْ يَزِدْ عَلَى رَكْعَتَيْنِ حَتَّى قَبَضَهُ اللَّهُ، وَصَحِبْتُ أَبَا بَكْرٍ فَلَمْ يَزِدْ عَلَى رَكْعَتَيْنِ حَتَّى قَبَضَهُ اللَّهُ، وَصَحِبْتُ عُمَرَ فَلَمْ يَزِدْ عَلَى رَكْعَتَيْنِ حَتَّى قَبَضَهُ اللَّهُ، وَصَحِبْتُ عُثْمَانَ فَلَمْ يَزِدْ عَلَى رَكْعَتَيْنِ حَتَّى قَبَضَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ}. انْتَهَى.
وَهُوَ مُعَارِضٌ لِلْمَرْوِيِّ مِنْ أَنَّ عُثْمَانَ كَانَ يُتِمُّ، وَالتَّوْفِيقُ أَنَّ إتْمَامَهُ الْمَرْوِيَّ كَانَ حِينَ قَامَ بِمِنًى أَيَّامَ مِنًى، وَلَا شَكَّ أَنَّ حُكْمَ السَّفَرِ مُنْسَحِبٌ عَلَى إقَامَةِ أَيَّامِ مِنًى فَسَاغَ إطْلَاقُ أَنَّهُ أَتَمَّ فِي السَّفَرِ، ثُمَّ كَانَ ذَلِكَ مِنْهُ بَعْدَ مَا مَضَى الصَّدْرُ مِنْ خِلَافَتِهِ؛ لِأَنَّهُ تَأَهَّلَ بِمَكَّةَ عَلَى مَا رَوَاهُ أَحْمَدُ أَنَّهُ صَلَّى بِمِنًى أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ فَأَنْكَرَ النَّاسُ عَلَيْهِ فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ إنِّي تَأَهَّلْتُ بِمَكَّةَ مُنْذُ قَدِمْتُ، وَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: «مَنْ تَأَهَّلَ فِي بَلَدٍ فَلْيُصَلِّ صَلَاةَ الْمُقِيمِ» مَعَ أَنَّ فِي الْبَابِ مَا هُوَ مَرْفُوعٌ، فَفِي مُسْلِمٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ «فَرَضَ اللَّهُ الصَّلَاةَ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّكُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَضَرِ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ، وَفِي السَّفَرِ رَكْعَتَيْنِ، وَفِي الْخَوْفِ رَكْعَةً» وَهَذَا رَفْعٌ، وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ بِلَفْظِ «افْتَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَكْعَتَيْنِ فِي السَّفَرِ كَمَا افْتَرَضَ فِي الْحَضَرِ أَرْبَعًا». وَأَخْرَجَ النَّسَائِيّ وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قال: «صَلَاةُ السَّفَرِ رَكْعَتَانِ، وَصَلَاةُ الْأَضْحَى رَكْعَتَانِ، وَصَلَاةُ الْفِطْرِ رَكْعَتَانِ، وَصَلَاةُ الْجُمُعَةِ رَكْعَتَانِ تَمَامٌ غَيْرُ قَصْرٍ عَلَى لِسَانِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» وَرَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ، وَإِعْلَالُهُ بِأَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ عُمَرَ مَدْفُوعٌ بِثُبُوتِ ذَلِكَ حَكَمَ بِهِ مُسْلِمٌ فِي مُقَدِّمَةِ كِتَابِهِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ كَانَ فِيمَا حَقَّقْنَاهُ مِنْ الْمَعْنَى الْمُفِيدِ لِنَفْلِيَّةِ الرَّكْعَتَيْنِ كِفَايَةٌ. وَاعْلَمْ أَنَّ مِنْ الشَّارِحِينَ مَنْ يَحْكِي خِلَافًا بَيْنَ الْمَشَايِخِ فِي أَنَّ الْقَصْرَ عِنْدَنَا عَزِيمَةٌ أَوْ رُخْصَةٌ، وَيَنْقُلُ اخْتِلَافَ عِبَارَتِهِمْ فِي ذَلِكَ، وَهُوَ غَلَطٌ؛ لِأَنَّ مَنْ قَالَ رُخْصَةٌ عَنَى رُخْصَةَ الْإِسْقَاطِ، وَهُوَ الْعَزِيمَةُ، وَتَسْمِيَتُهَا رُخْصَةً مَجَازٌ وَهَذَا بِحَيْثُ لَا يَخْفَى عَلَى أَحَدٍ.

متن الهداية:
(وَإِذَا فَارَقَ الْمُسَافِرُ بُيُوتَ الْمِصْرِ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ)؛ لِأَنَّ الْإِقَامَةَ تَتَعَلَّقُ بِدُخُولِهَا فَيَتَعَلَّقُ السَّفَرُ بِالْخُرُوجِ عَنْهَا. وَفِيهِ الْأَثَرُ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، لَوْ جَاوَزْنَا هَذَا الْخُصَّ لَقَصَرْنَا (وَلَا يَزَالُ عَلَى حُكْمِ السَّفَرِ حَتَّى يَنْوِيَ الْإِقَامَةَ فِي بَلْدَةٍ أَوْ قَرْيَةٍ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا أَوْ أَكْثَرَ، وَإِنْ نَوَى أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ قَصَرَ)؛ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ اعْتِبَارِ مُدَّةٍ لِأَنَّ السَّفَرَ يُجَامِعُهُ اللُّبْثُ فَقَدَّرْنَاهَا بِمُدَّةِ الطُّهْرِ؛ لِأَنَّهُمَا مُدَّتَانِ مُوجِبَتَانِ، وَهُوَ مَأْثُورٌ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَالْأَثَرُ فِي مِثْلِهِ كَالْخَبَرِ، وَالتَّقْيِيدُ بِالْبَلْدَةِ وَالْقَرْيَةِ يُشِيرُ إلَى أَنَّهُ لَا تَصِحُّ نِيَّةُ الْإِقَامَةِ فِي الْمَفَازَةِ وَهُوَ الظَّاهِرُ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَإِذَا فَارَقَ) بَيَانٌ لِمَبْدَإِ الْقَصْرِ، وَيَدْخُلُ فِي بُيُوتِ الْمِصْرِ رَبَضُهُ، وَقَدْ صَحَّ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسلام: «أَنَّهُ قَصَرَ الْعَصْرَ بِذِي الْحُلَيْفَةِ». وَرَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ خَرَجَ مِنْ الْبَصْرَةِ فَصَلَّى الظُّهْرَ أَرْبَعًا ثُمَّ قَالَ: إنَّا لَوْ جَاوَزْنَا هَذَا الْخُصَّ لَصَلَّيْنَا رَكْعَتَيْنِ. فَإِنْ قِيلَ: عِنْدَ الْمُفَارَقَةِ يَتَحَقَّقُ مَبْدَأُ الْفِنَاءِ إذْ هُوَ مُقَدَّرٌ بِغَلْوَةٍ فِي الْمُخْتَارِ. وَقِيلَ بِأَكْثَرَ مِمَّا سَنَذْكُرُهُ فِي بَابِ الْجُمُعَةِ، وَالْفِنَاءُ مُلْحَقٌ بِالْمِصْرِ شَرْعًا حَتَّى جَازَتْ الْجُمُعَةُ وَالْعِيدَانِ فِيهِ، وَمُقْتَضَاهُ أَنْ لَا يَقْصُرَ بِمُجَرَّدِ الْمُفَارَقَةِ لِلْبُيُوتِ بَلْ إذَا جَاوَزَ الْفِنَاءَ. أُجِيبَ بِأَنَّهُ إنَّمَا أُلْحِقَ بِهِ فِيمَا هُوَ مِنْ حَوَائِجِ أَهْلِهِ الْمُقِيمِينَ فِيهِ لَا مُطْلَقًا، وَأَمَّا عَلَى قول مَنْ مَنَعَ الْجُمُعَةَ فِيهِ إذَا كَانَ مُنْقَطِعًا عَنْ الْعُمْرَانِ فَلَا يَرِدُ الْإِشْكَالُ.
وَفِي فَتَاوَى قَاضِي خَانْ: فَصْلٌ فِي الْفِنَاءِ، فَقَالَ: إنْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمِصْرِ أَقَلُّ مِنْ قَدْرِ غَلْوَةٍ وَلَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا مَزْرَعَةٌ يَعْتَبِرُ مُجَاوَزَةَ الْفِنَاءِ أَيْضًا، وَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمَا مَزْرَعَةٌ أَوْ كَانَتْ الْمَسَافَةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمِصْرِ قَدْرَ غَلْوَةٍ يَعْتَبِرُ مُجَاوَزَةَ عُمْرَانِ الْمِصْرِ هَذَا، وَإِذَا كَانَتْ قَرْيَةً أَوْ قُرًى مُتَّصِلَةً بِرَبَضِ الْمِصْرِ لَا يَقْصُرُ حَتَّى يُجَاوِزَهَا.
وَفِي الْفَتَاوَى أَيْضًا إنْ كَانَ فِي الْجَانِبِ الَّذِي خَرَجَ مِنْهُ مَحَلَّةٌ مُنْفَصِلَةٌ عَنْ الْمِصْرِ، وَفِي الْقَدِيمِ كَانَتْ مُتَّصِلَةً بِالْمِصْرِ لَا يَقْصُرُ حَتَّى يُجَاوِزَ تِلْكَ الْمَحَلَّةَ. وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ قَدْ صَدَقَ مُفَارَقَةُ بُيُوتِ الْمِصْرِ مَعَ عَدَمِ جَوَازِ الْقَصْرِ، فَفِي عِبَارَةِ الْكِتَابِ إرْسَالٌ غَيْرُ وَاقِعٍ؛ وَلَوْ ادَّعَيْنَا أَنَّ بُيُوتَ تِلْكَ الْقُرَى دَاخِلَةٌ فِي مُسَمَّى بُيُوتِ الْمِصْرِ انْدَفَعَ هَذَا لَكِنَّهُ تَعَسُّفٌ ظَاهِرٌ، ثُمَّ الْمُعْتَبَرُ مُجَاوَزَةُ بُيُوتِ الْجَانِبِ الَّذِي خَرَجَ مِنْهُ، فَلَوْ جَاوَزَهَا وَتُحَاذِيهِ بُيُوتٌ مِنْ جَانِبٍ آخَرَ جَازَ الْقَصْرُ.
قولهُ: (وَلَا يَزَالُ عَلَى حُكْمِ السَّفَرِ حَتَّى يَنْوِيَ إلَخْ) ظَاهِرٌ أَنَّ الْمُرَادَ حَتَّى يَدْخُلَ قَرْيَةً أَوْ بَلَدًا فَيَنْوِيَ ذَلِكَ، وَإِلَّا فَنِيَّةُ الْإِقَامَةِ بِالْقَرْيَةِ وَالْبَلَدِ مُتَحَقِّقَةٌ حَالَ سَفَرِهِ إلَيْهَا قَبْلَ دُخُولِهَا لَكِنَّ تَرْكَهُ لِظُهُورِهِ وَلِاسْتِفَادَتِهِ مِنْ تَعْلِيلِ مَا قَبْلَهُ بِقولهِ؛ لِأَنَّ الْإِقَامَةَ تَتَعَلَّقُ بِدُخُولِهَا، وَفِيهِ أَثَرُ عَلِيٍّ. قَالَ الْبُخَارِيُّ تَعْلِيقًا: وَخَرَجَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَصَرَ وَهُوَ يَرَى الْبُيُوتَ، فَلَمَّا رَجَعَ قِيلَ لَهُ هَذِهِ الْكُوفَةُ قَالَ لَا حَتَّى نَدْخُلَهَا، يُرِيدُ أَنَّهُ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ وَالْكُوفَةُ بِمَرْأًى مِنْهُمْ فَقِيلَ لَهُ إلَخْ، وَقَدْ أَسْنَدَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ فَصَرَّحَ بِهِ قَالَ: أَخْبَرَنَا الثَّوْرِيُّ عَنْ وَفَاءِ بْنِ إيَاسٍ الْأَسَدِيِّ قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَنَحْنُ نَنْظُرُ إلَى الْكُوفَةَ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ رَجَعْنَا فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ وَهُوَ يَنْظُرُ إلَى الْقَرْيَةِ، فَقُلْنَا لَهُ: أَلَا تُصَلِّي أَرْبَعًا؟ قَالَ: لَا حَتَّى نَدْخُلَهَا. ثُمَّ بَقَاءُ حُكْمِ السَّفَرِ مِنْ حِينِ الْمُفَارَقَةِ نَاوِيًا لِلسَّفَرِ إلَى غَايَةِ نِيَّةِ الْإِقَامَةِ فِي بَلَدٍ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا مُقَيَّدٌ بِأَنْ يَكُونَ بَعْدَ اسْتِكْمَالِ مُدَّةِ السَّفَرِ وَبِأَنْ لَا يَكُونَ مِنْ دَارِ الْحَرْبِ وَهُوَ مِنْ الْعَسْكَرِ قَبْلَ الْفَتْحِ. وَأَيْضًا اشْتِرَاطُ النِّيَّةِ مُطْلَقًا فِي ثُبُوتِ الْإِقَامَةِ لَيْسَ وَاقِعًا، فَإِنَّهُ لَوْ دَخَلَ مِصْرَهُ صَارَ مُقِيمًا بِمُجَرَّدِ دُخُولِهِ بِلَا نِيَّةٍ. وَالْأَحْسَنُ فِي الضَّابِطِ لَا يَزَالُ مُسَافِرًا حَتَّى يَعْزِمَ عَلَى الرُّجُوعِ إلَى بَلَدِهِ قَبْلَ اسْتِكْمَالِ مُدَّةِ السَّفَرِ، وَلَوْ فِي الْمَفَازَةِ، أَوْ يَدْخُلَهَا بَعْدَ الِاسْتِكْمَالِ، أَوْ يَدْخُلَ غَيْرَهَا فَيَنْوِيَ الْإِقَامَةَ بِهَا وَحْدَهَا خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا فَصَاعِدًا وَلَيْسَتْ مِنْ دَارِ الْحَرْبِ، وَهُوَ مِنْ الْعَسْكَرِ الدَّاخِلِينَ، وَالْمَفَاهِيمُ الْمُخَالِفَةُ لِلْقُيُودِ كُلُّهَا مَذْكُورَةٌ فِي الْكِتَابِ مَسَائِلَ مُسْتَقِلَّةً، غَيْرَ أَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ فِيهِ مَسْأَلَةَ الْعَزْمِ عَلَى الرُّجُوعِ، وَهِيَ أَنَّهُ إذَا ثَبَتَ حُكْمُ السَّفَرِ بِالْمُفَارَقَةِ نَاوِيًا لِلسَّفَرِ ثُمَّ بَدَا لَهُ أَنْ يَرْجِعَ لِحَاجَةٍ أَوْ لَا فَرَجَعَ صَارَ مُقِيمًا فِي الْمَفَازَةِ حَتَّى أَنَّهُ يُصَلِّي أَرْبَعًا، وَقِيَاسُهُ أَنْ لَا يَحِلَّ فِطْرُهُ فِي رَمَضَانَ، وَإِنْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ بَلَدِهِ يَوْمَانِ؛ لِأَنَّهُ انْتَقَضَ السَّفَرُ بِنِيَّةِ الْإِقَامَةِ لِاحْتِمَالِهِ النَّقْضَ إذْ لَمْ يَسْتَحْكِمُ إذَا لَمْ يَتِمَّ عِلَّةً، وَكَانَتْ الْإِقَامَةُ نَقْضًا لِلْعَارِضِ لَا ابْتِدَاءَ عِلَّةِ الْإِتْمَامِ. وَلَوْ قِيلَ الْعِلَّةُ مُفَارَقَةُ الْبُيُوتِ قَاصِدًا مَسِيرَةَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ لَا اسْتِكْمَالُ سَفَرِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ بِدَلِيلِ ثُبُوتِ حُكْمِ السَّفَرِ بِمُجَرَّدِ ذَلِكَ فَقَدْ تَمَّتْ الْعِلَّةُ لِحُكْمِ السَّفَرِ فَيَثْبُتُ حُكْمُهُ مَا لَمْ يَثْبُتْ عِلَّةُ حُكْمِ الْإِقَامَةِ احْتَاجَ إلَى الْجَوَابِ.
قولهُ: (لِأَنَّ السَّفَرَ يُجَامِعُهُ اللُّبْثُ) يَعْنِي حَقِيقَةَ اللُّبْثِ مَعَ قِيَامِ حَقِيقَةِ السَّفَرِ يُوجَدُ فِي كُلِّ مَرْحَلَةٍ فَلَا يُمْكِنُ اعْتِبَارُ مُطْلَقِهِ.
قولهُ: (وَهُوَ مَأْثُورٌ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ) أَخْرَجَهُ الطَّحَاوِيُّ عَنْهُمَا قَالَا: إذَا قَدِمْت بَلْدَةً وَأَنْتَ مُسَافِرٌ وَفِي نَفْسِك أَنْ تُقِيمَ خَمْسَ عَشْرَةَ لَيْلَةً فَأَكْمِلْ الصَّلَاةَ بِهَا، وَإِنْ كُنْت لَا تَدْرِي مَتَى تَظْعَنُ فَاقْصُرْهَا. وَرَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ ذَرٍّ عَنْ مُجَاهِدٍ، أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ إذَا أَجْمَعَ عَلَى إقَامَةِ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا أَتَمَّ.
وَقَالَ مُحَمَّدٌ فِي كِتَابِ الْآثَارِ: حَدَّثَنَا أَبُو حَنِيفَةَ، حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ مُسْلِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: إذَا كُنْت مُسَافِرًا فَوَطَّنْتَ نَفْسَك عَلَى إقَامَةِ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا فَأَتْمِمْ الصَّلَاةَ، وَإِنْ كُنْتَ لَا تَدْرِي مَتَى تَظْعَنُ فَاقْصُرْ.
قولهُ: (وَالْأَثَرُ فِي مِثْلِهِ كَالْخَبَرِ وَهُوَ الظَّاهِرُ) احْتِرَازٌ عَمَّا سَيَذْكُرُهُ مِنْ الرِّوَايَةِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ؛ لِأَنَّهُ لَا مَدْخَلَ لِلرَّأْيِ فِي الْمُقَدَّرَاتِ الشَّرْعِيَّةِ، وَقَدْ يُنَافِيهِ قولهُ: فَقَدَّرْنَاهَا بِمُدَّةِ الطُّهْرِ؛ لِأَنَّهُمَا مُدَّتَانِ مُوجِبَتَانِ، فَهَذَا قِيَاسُ أَصْلِهِ مُدَّةَ الطُّهْرِ، وَالْعِلَّةُ كَوْنُهَا مُوجِبَةً مَا كَانَ سَاقِطًا وَهِيَ ثَابِتَةٌ فِي مُدَّةِ الْإِقَامَةِ وَهِيَ الْفَرْعُ فَاعْتُبِرَتْ كَمِّيَّتُهَا بِهَا وَهُوَ الْحُكْمُ، وَإِصْلَاحُهُ بِأَنَّهُ بَعْدَ ثُبُوتِ التَّقْدِيرِ بِالْخَبَرِ وَجَدْنَاهُ عَلَى وَفْقِ صُورَةِ قِيَاسٍ ظَاهِرٍ فَرَجَّحْنَا بِهِ الْمَرْوِيَّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ عَلَى الْمَرْوِيِّ عَنْ عُثْمَانَ أَنَّهَا أَرْبَعَةُ أَيَّامٍ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَقَدْ أَخْرَجَ السِّتَّةُ عَنْ أَنَسٍ «خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْمَدِينَةِ إلَى مَكَّةَ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ حَتَّى رَجَعْنَا إلَى الْمَدِينَةِ قِيلَ: كَمْ أَقَمْتُمْ بِمَكَّةَ؟ قَالَ: أَقَمْنَا بِهَا عَشْرًا» وَلَا يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى أَنَّهُمْ عَزَمُوا قَبْلَ أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ، غَيْرُ أَنَّهُمْ اتَّفَقَ لَهُمْ أَنَّهُمْ اسْتَمَرُّوا إلَى عَشْرٍ؛ لِأَنَّ الْحَدِيثَ إنَّمَا هُوَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ، فَتَعَيَّنَ أَنَّهُمْ نَوَوْا الْإِقَامَةَ حَتَّى يَقْضُوا النُّسُكَ. نَعَمْ كَانَ يَسْتَقِيمُ هَذَا لَوْ كَانَ فِي قِصَّةِ الْفَتْحِ، لَكِنَّ الْكَائِنَ فِيهَا «أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقَامَ بِمَكَّةَ تِسْعَ عَشْرَةَ يَقْصُرُ الصَّلَاةَ» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَحَدِيثُ أَنَسٍ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ قَالَهُ الْمُنْذِرِيُّ، «فَإِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ مَكَّةَ صُبْحَ رَابِعَةٍ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ وَهُوَ يَوْمُ الْأَحَدِ، وَبَاتَ بِالْمُحَصَّبِ لَيْلَةَ الْأَرْبِعَاءِ وَفِي مِثْلِ تِلْكَ اللَّيْلَةِ اعْتَمَرَتْ عَائِشَةُ مِنْ التَّنْعِيمِ، ثُمَّ طَافَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَوَافَ الْوَدَاعِ سَحَرًا قَبْلَ الصُّبْحِ مِنْ يَوْمِ الْأَرْبِعَاءِ، وَخَرَجَ صَبِيحَتَهُ وَهُوَ الْيَوْمُ الرَّابِعَ عَشَرَ فَتَمَّتْ لَهُ عَشْرُ لَيَالٍ». وَلَوْ قِيلَ: تِلْكَ وَاقِعَةُ حَالٍ فَيَجُوزُ كَوْنُ الْإِقَامَةِ فِيهَا كَانَتْ مَنْوِيَّةً مِنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَكَّةَ وَمِنًى فَلَا يَصِيرُ لَهُ بِذَلِكَ حُكْمُ الْإِقَامَةِ عَلَى رَأْيِكُمْ. قُلْنَا: مَعْلُومٌ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَكُنْ لِيَخْرُجَ مِنْ مَكَّةَ إلَى صَبِيحَةِ يَوْمِ التَّرْوِيَةِ فَيَكُونُ عَزْمُهُ عَلَى الْإِقَامَةِ بِمَكَّةَ إلَى حِينَئِذٍ، وَذَلِكَ أَرْبَعَةُ أَيَّامٍ كَوَامِلُ، فَيَنْتَفِي بِهِ قولكُمْ: إنَّ أَرْبَعَةً أَقَلُّ مُدَّةِ الْإِقَامَةِ.

متن الهداية:
(وَلَوْ دَخَلَ مِصْرًا عَلَى عَزْمِ أَنْ يَخْرُجَ غَدًا أَوْ بَعْدَ غَدٍ وَلَمْ يَنْوِ مُدَّةَ الْإِقَامَةِ حَتَّى بَقِيَ عَلَى ذَلِكَ سِنِينَ قَصَرَ)؛ لِأَنَّ ابْنَ عُمَرَ أَقَامَ بِأَذْرَبِيجَانَ سِتَّةَ أَشْهُرٍ وَكَانَ يَقْصُرُ. وَعَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ مِثْلُ ذَلِكَ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (لِأَنَّ ابْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَقَامَ بِأَذْرَبِيجَانَ) بِالذَّالِ السَّاكِنَةِ الْمُعْجَمَةِ بَعْدَ هَمْزَةٍ وَالْبَاءُ مَكْسُورَةٌ بَعْدَهَا الْيَاءُ الْمُثَنَّاةُ مِنْ تَحْتٍ قَرْيَةٌ، رَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ بِسَنَدِهِ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ أَقَامَ بِأَذْرَبِيجَانَ سِتَّةَ أَشْهُرٍ يَقْصُرُ الصَّلَاةَ. وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ فِي الْمَعْرِفَةِ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ قَالَ: ارْتَجَّ عَلَيْنَا الثَّلْجُ وَنَحْنُ بِأَذْرَبِيجَانَ سِتَّةَ أَشْهُرٍ فِي غَزَاةٍ، فَكُنَّا نُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ، وَقَيَّدَ أَنَّهُ كَانَ مَعَ غَيْرِهِ مِنْ الصَّحَابَةِ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ الْحَسَنِ قَالَ: كُنَّا مَعَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَمُرَةَ بِبَعْضِ بِلَادِ فَارِسَ سِنِينَ، فَكَانَ لَا يَجْمَعُ وَلَا يَزِيدُ عَلَى الرَّكْعَتَيْنِ وَأَخْرَجَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّهُ كَانَ مَعَ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ بِالشَّامِّ شَهْرَيْنِ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ.

متن الهداية:
(وَإِذَا دَخَلَ الْعَسْكَرُ أَرْضَ الْحَرْبِ فَنَوَوْا الْإِقَامَةَ بِهَا قَصَرُوا وَكَذَا إذَا حَاصَرُوا فِيهَا مَدِينَةً أَوْ حِصْنًا)؛ لِأَنَّ الدَّاخِلَ بَيْنَ أَنْ يُهْزَمَ فَيَقِرَّ وَبَيْنَ أَنْ يَنْهَزِمَ فَيَفِرَّ فَلَمْ تَكُنْ دَارَ إقَامَةٍ (وَكَذَا إذَا حَاصَرُوا أَهْلَ الْبَغْيِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ فِي غَيْرِ مِصْرٍ أَوْ حَاصَرُوهُمْ فِي الْبَحْرِ)؛ لِأَنَّ حَالَهُمْ مُبْطِلٌ عَزِيمَتَهُمْ، وَعِنْدَ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ: يَصِحُّ فِي الْوَجْهَيْنِ إذَا كَانَ الشَّوْكَةُ لَهُ لِلتَّمَكُّنِ مِنْ الْقَرَارِ ظَاهِرًا. وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ يَصِحُّ إذَا كَانُوا فِي بُيُوتِ الْمَدَرِ؛ لِأَنَّهُ مَوْضِعُ إقَامَةٍ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (فَلَمْ تَكُنْ دَارَ إقَامَةٍ) وَمُجَرَّدُ نِيَّةِ الْإِقَامَةِ لَا تَتِمُّ عِلَّةً فِي ثُبُوتِ حُكْمِ الْإِقَامَةِ كَمَا فِي الْمَفَازَةِ، فَكَانَتْ الْبَلَدُ مِنْ دَارِ الْحَرْبِ قَبْلَ الْفَتْحِ فِي حَقِّ أَهْلِ الْعَسْكَرِ كَالْمَفَازَةِ مِنْ جِهَةِ أَنَّهَا لَيْسَتْ بِمَوْضِعِ إقَامَةٍ قَبْلَ الْفَتْحِ؛ لِأَنَّهُمْ بَيْنَ أَنْ يَهْزِمُوا فَيَقِرُّوا أَوْ يُهْزَمُوا فَيَفِرُّوا، فَحَالَتُهُمْ هَذِهِ مُبْطِلَةٌ عَزِيمَتَهُمْ؛ لِأَنَّهُمْ مَعَ تِلْكَ الْعَزِيمَةِ مُوَطَّنُونَ عَلَى أَنَّهُمْ إنْ هُزِمُوا قَبْلَ تَمَامِ الْخَمْسَةَ عَشَرَ وَهُوَ أَمْرٌ مُجَوَّزٌ لَمْ يُقِيمُوا، وَهَذَا مَعْنَى قِيَامِ التَّرَدُّدِ فِي الْإِقَامَةِ فَلَمْ تُقْطَعْ النِّيَّةُ عَلَيْهَا، وَلَا بُدَّ فِي تَحَقُّقِ حَقِيقَةِ النِّيَّةِ مِنْ قَطْعِ الْقَصْدِ، وَإِنْ كَانَتْ الشَّوْكَةُ لَهُمْ؛ لِأَنَّ احْتِمَالَ وُصُولِ الْمَدَدِ لِلْعَدُوِّ، وَوُجُودَ مَكِيدَةٍ مِنْ الْقَلِيلِ يَهْزِمُ بِهَا الْكَثِيرَ قَائِمٌ، وَذَلِكَ يَمْنَعُ قَطْعَ الْقَصْدِ، وَبِهَذَا يُضَعَّفُ تَعْلِيلُ أَبِي يُوسُفَ الصِّحَّةَ إذَا كَانُوا فِي بُيُوتِ الْمَدَرِ لَا إنْ كَانُوا فِي الْأَخْبِيَةِ؛ لِأَنَّ مُجَرَّدَ بُيُوتِ الْمَدَرِ لَيْسَ عِلَّةَ ثُبُوتِ الْإِقَامَةِ بَلْ مَعَ النِّيَّةِ وَلَمْ تُقْطَعْ، وَعَلَى هَذَا قَالُوا فِيمَنْ دَخَلَ مِصْرًا لِقَضَاءِ حَاجَةٍ مُعَيَّنَةٍ لَيْسَ غَيْرَ وَنَوَى الْإِقَامَةَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا لَا يُتِمُّ، وَفِي أَسِيرٍ انْفَلَتَ مِنْهُمْ وَوَطَّنَ عَلَى إقَامَةِ خَمْسَةَ عَشَرَ فِي غَارٍ وَنَحْوِهِ لَمْ يَصِرْ مُقِيمًا.

متن الهداية:
(وَنِيَّةُ الْإِقَامَةِ مِنْ أَهْلِ الْكَلَأِ وَهُمْ أَهْلُ الْأَخْبِيَةِ، قِيلَ لَا تَصِحُّ، وَالْأَصَحُّ أَنَّهُمْ مُقِيمُونَ) يُرْوَى ذَلِكَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ؛ لِأَنَّ الْإِقَامَةَ أَصْلٌ فَلَا تَبْطُلُ بِالِانْتِقَالِ مِنْ مَرْعًى إلَى مَرْعًى.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (فَلَا يَبْطُلُ بِانْتِقَالٍ مَنْ مَرْعًى إلَى مَرْعًى) يَعْنِي هُمْ لَا يَقْصِدُونَ سَفَرًا بَلْ الِانْتِقَالَ مِنْ مَرْعًى إلَى مَرْعًى، وَهَذَا؛ لِأَنَّ عَادَتَهُمْ الْمُقَامُ فِي الْمَفَاوِزِ فَكَانَتْ فِي حَقِّهِمْ كَالْقُرَى فِي حَقِّ أَهْلِ الْقُرَى. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الرِّعَاءَ إذَا كَانُوا فِي تَرْحَالٍ فِي الْمَفَاوِزِ مِنْ مَسَاقِطَ إلَى مَسَاقِطِ الْغَيْثِ وَمَعَهُمْ رِحَالُهُمْ وَأَثْقَالُهُمْ كَانُوا مُسَافِرِينَ حَيْثُ نَزَلُوا مَرْعًى كَثِيرَ الْكَلَإِ وَالْمَاءِ وَاِتَّخَذُوا الْمَخَابِزَ وَالْمَعَالِفَ وَالْأَوَارِيَ وَالْخِيَامَ وَعَزَمُوا عَلَى إقَامَةِ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا وَالْمَاءُ وَالْكَلَأُ يَكْفِيهِمْ، فَإِنِّي أَسْتَحْسِنُ أَنْ أَجْعَلَهُمْ مُقِيمِينَ، وَلَا بُدَّ مِنْ تَقْيِيدِ سَفَرِهِمْ بِذَلِكَ بِأَنْ يَقْصِدُوا فِي الِابْتِدَاءِ مَوْضِعًا مَسِيرَةَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ حَتَّى يَنْتَقِضَ بِهِ حُكْمُ الْإِقَامَةِ الَّتِي كَانَتْ لَهُمْ، بَعْدَ ذَلِكَ يَجِيءُ هَذَا التَّفْصِيلُ ذَكَرَهُ فِي الْبَدَائِعِ. أَمَّا مَنْ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ بَلْ هُوَ مُسَافِرٌ فَلَا يَصِيرُ مُقِيمًا بِنِيَّةِ الْإِقَامَةِ فِي مَرْعًى أَوْ جَزِيرَةٍ.

متن الهداية:
(وَإِنْ اقْتَدَى الْمُسَافِرُ بِالْمُقِيمِ فِي الْوَقْتِ أَتَمَّ أَرْبَعًا)؛ لِأَنَّهُ يَتَغَيَّرُ فَرْضُهُ إلَى أَرْبَعٍ لِلتَّبَعِيَّةِ كَمَا يَتَغَيَّرُ بِنِيَّةِ الْإِقَامَةِ لِاتِّصَالِ الْمُغَيَّرِ بِالسَّبَبِ وَهُوَ الْوَقْتُ (وَإِنْ دَخَلَ مَعَهُ فِي فَائِتَةٍ لَمْ تُجْزِهِ)؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَغَيَّرُ بَعْدَ الْوَقْتِ لِانْقِضَاءِ السَّبَبِ، كَمَا لَا يَتَغَيَّرُ بِنِيَّةِ الْإِقَامَةِ فَيَكُونُ اقْتِدَاءُ الْمُفْتَرِضِ بِالْمُتَنَفِّلِ فِي حَقِّ الْقَعَدَةِ أَوْ الْقِرَاءَةِ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (لِاتِّصَالِ الْمُغَيَّرِ) وَهُوَ الِاقْتِدَاءُ بِالسَّبَبِ وَهُوَ الْوَقْتُ، وَفَرْضُ الْمُسَافِرِ قَابِلٌ لِلتَّغْيِيرِ حَالَ قِيَامِ الْوَقْتِ، فَإِنَّهُ لَوْ نَوَى الْإِقَامَةَ فِيهِ تَغَيَّرَ إلَى أَرْبَعٍ. فَبَعْدَ قَبُولِهِ لِلتَّغَيُّرِ تَوَقَّفَ تَحَقُّقُ التَّغَيُّرِ عَلَى مُجَرَّدِ سَبَبٍ وَقَدْ وُجِدَ وَهُوَ الِاقْتِدَاءُ. فَإِنْ قِيلَ: انْعِقَادُ الِاقْتِدَاءِ سَبَبًا لِلتَّغَيُّرِ مَوْقُوفٌ عَلَى صِحَّةِ اقْتِدَاءِ الْمُسَافِرِ بِالْمُقِيمِ وَصِحَّتُهُ مَوْقُوفَةٌ عَلَى تَغَيُّرِ فَرْضِهِ إذْ مَا لَمْ يَتَغَيَّرْ لَزِمَ أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ مِنْ اقْتِدَاءِ الْمُفْتَرِضِ بِالْمُتَنَفِّلِ فِي حَقِّ الْقَعَدَةِ أَوْ الْقِرَاءَةِ فَقَدْ تَوَقَّفَ التَّغَيُّرُ عَلَى الِاقْتِدَاءِ وَصِحَّتُهُ عَلَى التَّغَيُّرِ وَهُوَ دَوْرٌ. فَالْجَوَابُ أَنَّهُ دَوْرُ مَعِيَّةٍ لَا دَوْرُ تَرَتُّبٍ بِأَنْ تَثْبُتَ صِحَّةُ الِاقْتِدَاءِ وَالتَّغَيُّرِ مَعًا إلَّا أَنَّهُ فِي الْمُلَاحَظَةِ يَكُونُ ثُبُوتُ التَّغَيُّرِ لِتَصْحِيحِ الِاقْتِدَاءِ؛ لِأَنَّهُ مَطْلُوبٌ شَرْعًا مَا لَمْ يُمْنَعْ مِنْهُ وَلَا مَانِعَ إلَّا عَدَمُ التَّغَيُّرِ، وَهُوَ لَيْسَ بِلَازِمٍ لِفَرْضِ ثُبُوتِ التَّغَيُّرِ بِمَا يَصْلُحُ سَبَبًا لَهُ فَلْيَكُنْ طَلَبُ الشَّرْعِ تَصْحِيحَ الِاقْتِدَاءِ سَبَبًا لَهُ أَيْضًا فَيَثْبُتُ عِنْدَ الِاقْتِدَاءِ فَتَثْبُتُ الصِّحَّةُ مَعَهُ، بِخِلَافِ مَا إذَا خَرَجَ الْوَقْتُ؛ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ لَا يَقْبَلُهَا لِتَقَرُّرِهِ فِي الذِّمَّةِ رَكْعَتَيْنِ فَيَصِيرُ كَالصُّبْحِ فَلَا يُمْكِنُ فَلَا يَصِحُّ، وَهَذَا إذَا خَرَجَ الْوَقْتُ قَبْلَ الِاقْتِدَاءِ. أَمَّا إذَا اقْتَدَى بِهِ فِي الْوَقْتِ ثُمَّ خَرَجَ قَبْلَ الْفَرَاغِ فَلَا يَفْسُدُ وَلَا يَبْطُلُ اقْتِدَاؤُهُ؛ لِأَنَّهُ حِينَ اقْتَدَى صَارَ فَرْضُهُ أَرْبَعًا لِلتَّبَعِيَّةِ كَالْمُقِيمِ وَصَلَاةُ الْمُقِيمِ لَا تَصِيرُ رَكْعَتَيْنِ بِخُرُوجِ الْوَقْتِ، وَكَذَا لَوْ نَامَ خَلْفَ الْإِمَامِ حَتَّى خَرَجَ الْوَقْتُ فَانْتَبَهَ بِطَرِيقٍ أَوْلَى: أَعْنِي يُتِمُّ أَرْبَعًا، وَإِذَا كَانَ تَغَيُّرُهُ ضَرُورَةَ الِاقْتِدَاءِ فَلَوْ أَفْسَدَ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ لِزَوَالِهِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ اقْتَدَى بِالْمُقِيمِ فِي فَرْضِهِ يَنْوِي النَّفَلَ حَيْثُ يُصَلِّي أَرْبَعًا إذَا أَفْسَدَ؛ لِأَنَّهُ الْتَزَمَ أَدَاءَ صَلَاةِ الْإِمَامِ وَهُنَا لَمْ يَقْصِدْ سِوَى إسْقَاطِ فَرْضِهِ غَيْرَ أَنَّهُ تَغَيُّرُ ضَرُورَةِ الْمُتَابَعَةِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ اقْتَدَى الْمُقِيمُ بِالْمُسَافِرِ فَأَحْدَثَ الْإِمَامُ فَاسْتَخْلَفَ الْمُقِيمَ لَا يَتَغَيَّرُ فَرْضُهُ إلَى الْأَرْبَعِ مَعَ أَنَّهُ صَارَ مُقْتَدِيًا بِالْخَلِيفَةِ الْمُقِيمِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ الْمُؤْتَمُّ خَلِيفَةً عَنْ الْمُسَافِرِ كَانَ الْمُسَافِرُ كَأَنَّهُ الْإِمَامُ فَيَأْخُذُ الْخَلِيفَةُ صِفَةَ الْأَوَّلِ، حَتَّى لَوْ لَمْ يَقْعُدْ عَلَى رَأْسِ الرَّكْعَتَيْنِ فَسَدَتْ صَلَاةُ الْكُلِّ مِنْ الْمُسَافِرِينَ وَالْمُقِيمِينَ. وَلَوْ أَمَّ مُسَافِرٌ مُسَافِرِينَ وَمُقِيمِينَ فَقَبْلَ أَنْ يُسَلِّمَ بَعْدَ التَّشَهُّدِ عَلَى رَأْسِ الرَّكْعَتَيْنِ تَكَلَّمَ وَاحِدٌ مِنْ الْمُسَافِرِينَ أَوْ قَامَ فَذَهَبَ ثُمَّ نَوَى الْإِمَامُ الْإِقَامَةَ فَإِنَّهُ يَتَحَوَّلُ فَرْضُهُ وَفَرْضُ الْمُسَافِرِينَ الَّذِينَ لَمْ يَتَكَلَّمُوا أَرْبَعًا لِوُجُودِ الْمُغَيِّرِ فِي مَحَلِّهِ، وَصَلَاةُ مَنْ تَكَلَّمَ تَامَّةٌ؛ لِأَنَّهُ تَكَلَّمَ فِي وَقْتٍ لَوْ تَكَلَّمَ إمَامُهُ لَمْ تَفْسُدْ فَكَذَا صَلَاةُ الْمُقْتَدِي إذَا كَانَ بِمِثْلِ حَالِهِ، وَلَوْ تَكَلَّمَ بَعْدَ نِيَّتِهِ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّهُ انْقَلَبَ فَرْضُهُ أَرْبَعًا ثُمَّ تَكَلَّمَ، وَلَكِنْ يَجِبُ عَلَيْهِ صَلَاةُ الْمُسَافِرِينَ رَكْعَتَيْنِ؛ لِأَنَّ الْأَرْبَعَ لِلتَّبَعِيَّةِ وَقَدْ زَالَتْ بِفَسَادِ الصَّلَاةِ.
قولهُ: (وَإِنْ دَخَلَ مَعَهُ فِي فَائِتَةٍ) أَيْ فِي فَائِتَةٍ عَلَى الْمَأْمُومِ الْمُسَافِرِ سَوَاءٌ كَانَتْ فَائِتَةً عَلَى الْإِمَامِ الْمُقِيمِ أَوْ لَا بِأَنْ صَلَّى الْمُقِيمُ رَكْعَةً مِنْ الظُّهْرِ مَثَلًا أَوْ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ خَرَجَ الْوَقْتُ فَاقْتَدَى بِهِ مُسَافِرٌ فِي الظُّهْرِ؛ لِأَنَّ الظُّهْرَ فَائِتَةٌ فِي حَقِّ الْمُسَافِرِ لَا فِي حَقِّ الْإِمَامِ.
قولهُ: (اقْتِدَاءُ الْمُفْتَرِضِ بِالْمُتَنَفِّلِ فِي حَقِّ الْقَعَدَةِ الْأَوْلَى) إنْ اقْتَدَى بِهِ فِي الشَّفْعِ الْأَوَّلِ فَإِنَّهَا فَرْضٌ عَلَى الْمُسَافِرِ الَّذِي لَمْ يَتَغَيَّرْ فَرْضُهُ وَاجِبَةٌ عَلَى الْإِمَامِ، وَإِنَّمَا أَطْلَقَ اسْمَ النَّفْلِ مَجَازًا لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي عَدَمِ فَسَادِ الصَّلَاةِ بِالتَّرْكِ أَوْ الْقِرَاءَةِ إنْ اقْتَدَى بِهِ فِي الشَّفْعِ الثَّانِي، فَإِنَّ الْقِرَاءَةَ فِيهِ نَفْلٌ عَلَى الْإِمَامِ، وَإِنْ فُرِضَ أَنَّهُ لَمْ يَقْرَأْ فِي الْأُولَيَيْنِ؛ لِأَنَّ قِرَاءَتَهُ هَذِهِ تَلْتَحِقُ بِالْأُولَيَيْنِ؛ لِأَنَّ فَرْضَ الْقِرَاءَةِ يَجِبُ جَعْلُهُ فِيهِمَا فَيَخْلُو الثَّانِي عَنْ الْقِرَاءَةِ بِالْكُلِّيَّةِ.

متن الهداية:
(وَإِنْ صَلَّى الْمُسَافِرُ بِالْمُقِيمِينَ رَكْعَتَيْنِ سَلَّمَ وَأَتَمَّ الْمُقِيمُونَ صَلَاتَهُمْ) لِأَنَّ الْمُقْتَدِيَ الْتَزَمَ الْمُوَافَقَةَ فِي الرَّكْعَتَيْنِ فَيَنْفَرِدُ فِي الْبَاقِي كَالْمَسْبُوقِ، إلَّا أَنَّهُ لَا يَقْرَأُ فِي الْأَصَحِّ؛ لِأَنَّهُ مُقْتَدٍ تَحْرِيمَةً لَا فِعْلًا وَالْفَرْضُ صَارَ مُؤَدًّى فَيَتْرُكُهَا احْتِيَاطًا، بِخِلَافِ الْمَسْبُوقِ؛ لِأَنَّهُ أَدْرَكَ قِرَاءَةً نَافِلَةً فَلَمْ يَتَأَدَّ الْفَرْضُ فَكَانَ الْإِتْيَانُ أَوْلَى، قَالَ: (وَيُسْتَحَبُّ لِلْإِمَامِ إذْ سَلَّمَ أَنْ يَقول: أَتِمُّوا صَلَاتَكُمْ فَإِنَّا قَوْمٌ سَفْرٌ)؛ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَهُ حِينَ صَلَّى بِأَهْلِ مَكَّةَ وَهُوَ مُسَافِرٌ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (فِي الْأَصَحِّ) احْتِرَازٌ عَمَّا قِيلَ يَقْرَءُونَ؛ لِأَنَّهُمْ مُنْفَرِدُونَ، وَلِهَذَا يَجِبُ السُّجُودُ عَلَيْهِمْ إذَا سَهَوْا.
قولهُ: (احْتِيَاطًا) فَإِنَّهُ بِالنَّظَرِ إلَى الِاقْتِدَاءِ: تَحْرِيمَةُ حِينَ أَدْرَكُوا أَوَّلَ صَلَاةِ الْإِمَامِ تُكْرَهُ الْقِرَاءَةُ تَحْرِيمًا، وَبِالنَّظَرِ إلَى عَدَمِهِ فِعْلًا إذْ لَمْ يَفُتْهُمْ مَعَ الْإِمَامِ مَا يَقْضُونَ وَقَدْ أَدْرَكُوا فَرْضَ الْقِرَاءَةِ تُسْتَحَبُّ، وَإِذَا دَارَ الْفِعْلُ بَيْنَ وُقُوعِهِ مُسْتَحَبًّا أَوْ مُحَرَّمًا لَا يَجُوزُ فِعْلُهُ، بِخِلَافِ الْمَسْبُوقِ فَإِنَّهُ أَدْرَكَ قِرَاءَةَ نَافِلَةٍ، وَلَوْ فُرِضَ أَنَّ الْإِمَامَ لَمْ يَكُنْ قَرَأَ فِي الْأُولَيَيْنِ فَإِنَّهَا حِينَئِذٍ تُلْتَحَقُ بِهِمَا وَيَخْلُو الشَّفْعُ الثَّانِي كَمَا ذَكَرْنَا فَلَمْ يُدْرِكْ قِرَاءَةً أَصْلًا حُكْمًا إذْ ذَاكَ فَدَارَتْ قِرَاءَتُهُ بَيْنَ أَنْ تَكُونَ مَكْرُوهَةً تَحْرِيمًا أَوْ رُكْنًا تَفْسُدُ الصَّلَاةُ بِتَرْكِهِ، فَالِاحْتِيَاطُ فِي حَقِّهِ الْقِرَاءَةُ؛ لِأَنَّ ارْتِكَابَ تَرْكِ الْفَرْضِ أَشَدُّ مِنْ ارْتِكَابِ الْمَكْرُوهِ تَحْرِيمًا.
قولهُ: (وَيُسْتَحَبُّ لَهُ إذَا سَلَّمَ أَنْ يَقول: أَتِمُّوا صَلَاتَكُمْ إلَخْ) لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ خَلْفَهُ مَنْ لَا يَعْرِفُ وَلَا يَتَيَسَّرُ لَهُ الِاجْتِمَاعُ بِالْإِمَامِ قَبْلَ ذَهَابِهِ فَيَحْكُمُ حِينَئِذٍ بِفَسَادِ صَلَاةِ نَفْسِهِ بِنَاءً عَلَى ظَنِّ إقَامَةِ الْإِمَامِ ثُمَّ إفْسَادِهِ بِسَلَامِهِ عَلَى رَكْعَتَيْنِ، وَهَذَا مَحْمَلُ مَا فِي الْفَتَاوَى إذَا اقْتَدَى بِإِمَامٍ لَا يَدْرِي أَمُسَافِرٌ هُوَ أَوْ مُقِيمٌ لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّ الْعِلْمَ بِحَالِ الْإِمَامِ شَرْطُ الْأَدَاءِ بِجَمَاعَةٍ انْتَهَى لَا أَنَّهُ شَرْطٌ فِي الِابْتِدَاءِ لِمَا فِي الْمَبْسُوطِ: رَجُلٌ صَلَّى بِالْقَوْمِ الظُّهْرَ رَكْعَتَيْنِ فِي قَرْيَةٍ وَهُمْ لَا يَدْرُونَ أَمُسَافِرٌ هُوَ أَمْ مُقِيمٌ فَصَلَاتُهُمْ فَاسِدَةٌ سَوَاءٌ كَانُوا مُقِيمِينَ أَمْ مُسَافِرِينَ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ حَالِ مَنْ فِي مَوْضِعِ الْإِقَامَةِ أَنَّهُ مُقِيمٌ، وَالْبِنَاءُ عَلَى الظَّاهِرِ وَاجِبٌ حَتَّى يَتَبَيَّنَ خِلَافُهُ، فَإِنْ سَأَلُوهُ فَأَخْبَرَهُمْ أَنَّهُ مُسَافِرٌ جَازَتْ صَلَاتُهُمْ انْتَهَى. وَإِنَّمَا كَانَ قول الْإِمَامِ ذَلِكَ مُسْتَحَبًّا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَعَيَّنْ مَعْرِفَةُ صِحَّةِ صَلَاتِهِ لَهُمْ فَإِنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يُتِمُّوا ثُمَّ يَسْأَلُوهُ فَتَحْصُلُ الْمَعْرِفَةُ. وَحَدِيثُ «أَتِمُّوا صَلَاتَكُمْ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قال: «غَزَوْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَشَهِدْت مَعَهُ الْفَتْحَ، فَأَقَامَ بِمَكَّةَ ثَمَانَ عَشْرَةَ لَيْلَةً لَا يُصَلِّي إلَّا رَكْعَتَيْنِ يَقول: يَا أَهْلَ مَكَّةَ صَلُّوا أَرْبَعًا فَإِنَّا قَوْمٌ سَفْرٌ» صَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ. هَذَا وَلَوْ قَامَ الْمُقْتَدِي الْمُقِيمُ قَبْلَ سَلَامِ الْإِمَامِ فَنَوَى الْإِمَامُ الْإِقَامَةَ قَبْلَ سُجُودِهِ رَفَضَ ذَلِكَ وَتَابَعَ الْإِمَامَ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ وَسَجَدَ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّهُ مَا لَمْ يَسْجُدْ لَمْ يَسْتَحْكِمْ خُرُوجُهُ عَنْ صَلَاةِ الْإِمَامِ قَبْلَ الْإِمَامِ. وَقَدْ بَقِيَ عَلَى الْإِمَامِ رَكْعَتَانِ بِوَاسِطَةِ التَّغَيُّرِ فَوَجَبَ عَلَيْهِ الِاقْتِدَاءُ فِيهِمَا، فَإِنْ انْفَرَدَ فَسَدَتْ، بِخِلَافِ مَا لَوْ نَوَى الْإِمَامُ بَعْدَ مَا سَجَدَ الْمُقْتَدِي فَإِنَّهُ يُتِمُّ مُنْفَرِدًا، فَلَوْ رَفَضَ وَتَابَعَ فَسَدَتْ لِاقْتِدَائِهِ حَيْثُ وَجَبَ الِانْفِرَادُ، وَقَدَّمْنَا فِي بَابِ الْحَدَثِ فِي الصَّلَاةِ مَسْأَلَةَ اسْتِخْلَافِ الْإِمَامِ الْمُسَافِرِ مُقِيمًا فَارْجِعْ إلَيْهَا هُنَاكَ وَأَتْقِنْهَا. (وَهَذِهِ مَسَائِلُ لِلزِّيَادَاتِ) مُسَافِرٌ وَمُقِيمٌ أَمَّ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ، فَلَمَّا شَرَعَا شَكَّا فِي الْإِمَامِ اسْتَقْبَلَا؛ لِأَنَّ الصَّلَاةَ مَتَى فَسَدَتْ مِنْ وَجْهٍ وَجَازَتْ مِنْ وُجُوهٍ حُكِمَ بِفَسَادِهَا، وَإِمَامَةُ الْمُقْتَدِي مُفْسِدَةٌ، وَاحْتِمَالُ كَوْنِ كُلٍّ مِنْهُمَا مُقْتَدِيًا قَائِمٌ فَتَفْسُدُ عَلَيْهِمَا. قِيلَ تَأْوِيلُهُ إذَا افْتَرَقَا عَنْ مَكَانِهِمَا، أَمَّا قَبْلَهُ فَيُجْعَلُ مَنْ عَنْ يَمِينِ الْآخَرِ مُقْتَدِيًا حَمْلًا عَلَى السُّنَّةِ، وَقِيلَ لَا؛ لِأَنَّ قِيَامَ الْمُقْتَدِي عَنْ الْيَمِينِ لَيْسَ شَرْطًا لِيُجْعَلَ دَلِيلًا، وَلَوْ لَمْ يَشُكَّا حَتَّى أَحْدَثَ أَحَدُهُمَا فَخَرَجَ ثُمَّ أَحْدَثَ الْآخَرُ فَخَرَجَ ثُمَّ شَكَّا فَسَدَتْ صَلَاةُ مَنْ خَرَجَ أَوَّلًا لَا الثَّانِي؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ سَوَاءٌ كَانَ إمَامًا أَوْ مُقْتَدِيًا لَمَّا خَرَجَ أَوَّلًا صَارَ مُقْتَدِيًا بِالْمُتَأَخِّرِ، ثُمَّ إذَا خَرَجَ الثَّانِي خَلَا مَوْضِعُ الْمَأْمُومِ عَنْ الْإِمَامِ وَذَلِكَ مُفْسِدٌ، بِخِلَافِ الثَّانِي فَإِنَّهُ خَرَجَ وَهُوَ إمَامٌ فَلَا تَعَلُّقَ لِصَلَاتِهِ بِصَلَاةِ غَيْرِهِ لِيَلْزَمَ مِنْ فَسَادِ صَلَاةِ الْغَيْرِ فَسَادُهَا وَيُصَلِّي أَرْبَعًا مُسَافِرًا كَانَ أَوْ مُقِيمًا، وَيَقْرَأُ فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ وَيَجْلِسُ عَلَى رَأْسِ الرَّكْعَتَيْنِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ فَرْضٌ عَلَى الْمُسَافِرِ إنْ كَانَ إمَامًا، وَعَلَى الْمُقِيمِ إنْ اقْتَدَى بِالْمُسَافِرِ وَتَحَوَّلَتْ إمَامَتُهُ إلَيْهِ، وَاحْتِمَالُ الِاقْتِدَاءِ ثَابِتٌ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ الْأَوَّلُ خُرُوجًا فَسَدَتْ صَلَاتُهُمَا؛ لِأَنَّ صَلَاةَ الْمُتَقَدِّمِ فَاسِدَةٌ وَاحْتِمَالُ التَّقَدُّمِ ثَابِتٌ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا، وَكَذَا إنْ خَرَجَا مَعًا لِفَسَادِ صَلَاةِ الْمُقْتَدِي مِنْهُمَا لِخُلُوِّ مَكَانِ الْإِمَامِ وَاحْتِمَالُ الِاقْتِدَاءِ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا ثَابِتٌ. وَلَوْ صَلَّيَا رَكْعَتَيْنِ وَقَعَدَا وَلَمْ يُحْدِثَا ثُمَّ شَكَّا فِي الْإِمَامِ لَمْ تَفْسُدْ صَلَاتُهُمَا بَلْ يَقُومُ الْمُقِيمُ وَيُتِمُّ أَرْبَعًا وَيُتَابِعُهُ الْمُسَافِرُ؛ لِأَنَّ الْمُقِيمَ إنْ كَانَ إمَامًا كَانَ لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ أَرْبَعًا، وَإِنْ كَانَ مُقْتَدِيًا انْتَهَى اقْتِدَاؤُهُ إذَا قَعَدَ إمَامُهُ قَدْرَ التَّشَهُّدِ، وَيُتَابِعُهُ الْمُسَافِرُ فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ إمَامًا تَمَّتْ صَلَاتُهُ فَلَا تَضُرُّهُ الْمُتَابَعَةُ فِي الزِّيَادَةِ، وَإِنْ كَانَ مُقْتَدِيًا انْقَلَبَ فَرْضُهُ أَرْبَعًا، وَاحْتِمَالُ الِاقْتِدَاءِ ثَابِتٌ حَتَّى لَوْ لَمْ يُتَابِعْهُ فَسَدَتْ لِمَا قُلْنَا، وَلَوْ لَمْ يَشُكَّا حَتَّى أَحْدَثَ أَحَدُهُمَا فَخَرَجَ ثُمَّ الْآخَرُ كَذَلِكَ ثُمَّ شَكَّا بَعْدَمَا رَجَعَا مِنْ الْوُضُوءِ فَسَدَتْ صَلَاةُ مَنْ خَرَجَ أَوَّلًا دُونَ الثَّانِي؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ لَوْ كَانَ مُقِيمًا، فَإِنْ كَانَ مُقْتَدِيًا بِالْمُسَافِرِ لَا تَفْسُدُ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّهُ خَرَجَ بَعْدَمَا انْتَهَى اقْتِدَاؤُهُ. وَإِنْ كَانَ إمَامًا فَسَدَتْ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا خَرَجَ أَوَّلًا صَارَ مُقْتَدِيًا بِالْمُسَافِرِ، فَإِذَا خَرَجَ الْمُسَافِرُ بَعْدَهُ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ مُسَافِرًا إنْ كَانَ إمَامًا لَمْ تَفْسُدْ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّهُ خَرَجَ بَعْدَ الْفَرَاغِ عَنْ الْأَرْكَانِ فَلَمْ يَصِرْ مُقْتَدِيًا بِالْمُقِيمِ لِانْتِهَاءِ الِاقْتِدَاءِ، وَإِنْ كَانَ مُقْتَدِيًا تَفْسُدُ صَلَاتُهُ لِخُرُوجِ الْإِمَامِ بَعْدَهُ فَفَسَدَتْ صَلَاةُ مَنْ خَرَجَ أَوَّلًا مِنْ وَجْهٍ وَجَازَتْ مِنْ وَجْهٍ فَيُحْكَمُ بِالْفَسَادِ وَالْمُتَأَخِّرُ لَا تَفْسُدُ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّهُ مُنْفَرِدٌ عِنْدَ الْخُرُوجِ، وَيُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ لِيَصِيرَ أَرْبَعًا؛ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ مُقِيمًا لَا بُدَّ لَهُ مِنْ ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ مُسَافِرًا فَبِالِاقْتِدَاءِ يَجِبُ ذَلِكَ وَاحْتِمَالُ الِابْتِدَاءِ ثَابِتٌ، وَإِنْ شَكَّا فِي الَّذِي خَرَجَ أَوَّلًا فَسَدَتْ صَلَاتُهُمَا؛ لِأَنَّ صَلَاةَ الْمُتَقَدِّمِ فَاسِدَةٌ وَاحْتِمَالُ التَّقَدُّمِ فِي حَقِّ كُلٍّ ثَابِتٌ، وَإِنْ خَرَجَا مَعًا فَصَلَاةُ الْمُقِيمِ تَامَّةٌ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ إمَامًا لَمْ تَتَحَوَّلْ إمَامَتُهُ إلَى الْمُسَافِرِ، وَإِنْ كَانَ مُقْتَدِيًا انْتَهَى حُكْمُ الِاقْتِدَاءِ فَصَارَ مُنْفَرِدًا، وَصَلَاةُ الْمُسَافِرِ فَاسِدَةٌ لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ كَانَ مُقْتَدِيًا وَقَدْ خَلَا مَكَانُ إمَامِهِ، وَإِنْ شَكَّا بَعْدَمَا صَلَّيَا ثَلَاثًا أَوْ أَرْبَعًا وَلَمْ يُحْدِثَا الْقِيَاسُ أَنَّهُ تُعْتَبَرُ الْأَحْوَالُ وَتَفْسُدُ صَلَاةُ الْمُقِيمِ لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ كَانَ مُقْتَدِيًا بِالْمُسَافِرِ فِي الشَّفْعِ الثَّانِي.
وَفِي الِاسْتِحْسَانِ: تَجُوزُ صَلَاتُهُمَا، وَيُجْعَلُ الْمُقِيمُ إمَامًا حَمْلًا لِأَمْرِهِمَا عَلَى الصِّحَّةِ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ الْمُسْلِمِ الْجَرْيُ عَلَى مُوجِبِ الشَّرْعِ كَمَا قُلْنَا فِيمَنْ أَحْرَمَ بِنُسُكَيْنِ وَنَسِيَهُمَا، الْقِيَاسُ أَنْ تَلْزَمَهُ عُمْرَتَانِ وَحَجَّتَانِ.
وَفِي الِاسْتِحْسَانِ تَلْزَمُهُ حَجَّةٌ وَعُمْرَةٌ حَمْلًا لِأَمْرِهِ عَلَى الْمَسْنُونِ الْمُتَعَارَفِ وَهُوَ الْقِرَانُ. وَكَذَلِكَ مُسَافِرٌ وَمُقِيمٌ أَمَّ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ فِي الظُّهْرِ وَتَرَكَا الْقَعْدَةَ عَلَى رَأْسِ الرَّكْعَتَيْنِ فَسَلَّمَا وَسَجَدَا لِلسَّهْوِ ثُمَّ شَكَّا فِي الْإِمَامِ يُجْعَلُ الْمُقِيمُ إمَامًا، وَكَذَا لَوْ تَرَكَا الْقِرَاءَةَ فِي الْأُولَيَيْنِ أَوْ إحْدَاهُمَا، فَلَمَّا سَلَّمَا وَسَجَدَا لِلسَّهْوِ شَكَّا يُجْعَلُ الْمُقِيمُ إمَامًا إذَا جَعَلْنَا الْمُقِيمَ إمَامًا فِي مَسْأَلَتِنَا، فَإِنْ أَحْدَثَ الْمُقِيمُ أَوَّلًا وَخَرَجَ ثُمَّ أَحْدَثَ الْمُسَافِرُ وَخَرَجَ فَسَدَتْ صَلَاةُ الْمُقِيمِ وَجَازَتْ صَلَاةُ الْمُسَافِرِ فَإِنْ أَحْدَثَا مَعًا أَوْ مُتَعَاقِبًا وَخَرَجَا مَعًا فَسَدَتْ صَلَاةُ الْمُسَافِرِ بِخُلُوِّ مَكَانِ الْإِمَامِ وَجَازَتْ صَلَاةُ الْمُقِيمِ؛ لِأَنَّهُ مُنْفَرِدٌ، وَإِنْ خَرَجَا عَلَى التَّعَاقُبِ وَلَا يُعْلَمُ أَوَّلُهُمَا خُرُوجًا فَسَدَتْ صَلَاتُهُمَا لِمَا قُلْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ.

متن الهداية:
(وَإِذَا دَخَلَ الْمُسَافِرُ فِي مِصْرِهِ أَتَمَّ الصَّلَاةَ وَإِنْ لَمْ يَنْوِ الْمُقَامَ فِيهِ)؛ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَأَصْحَابَهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ كَانُوا يُسَافِرُونَ وَيَعُودُونَ إلَى أَوْطَانِهِمْ مُقِيمِينَ مِنْ غَيْرِ عَزْمٍ جَدِيدٍ. (وَمَنْ كَانَ لَهُ وَطَنٌ فَانْتَقَلَ عَنْهُ وَاسْتَوْطَنَ غَيْرَهُ ثُمَّ سَافَرَ وَدَخَلَ وَطَنَهُ الْأَوَّلَ قَصَرَ)؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ وَطَنًا لَهُ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بَعْدَ الْهِجْرَةِ عَدَّ نَفْسَهُ بِمَكَّةَ مِنْ الْمُسَافِرِينَ؛ وَهَذَا لِأَنَّ الْأَصْلَ أَنَّ الْوَطَنَ الْأَصْلِيَّ يَبْطُلُ بِمِثْلِهِ دُونَ السَّفَرِ، وَوَطَنُ الْإِقَامَةِ يَبْطُلُ بِمِثْلِهِ وَبِالسَّفَرِ وَبِالْأَصْلِيِّ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (فَانْتَقَلَ عَنْهُ وَاسْتَوْطَنَ غَيْرَهُ) قَيَّدَ بِالْأَمْرَيْنِ فَإِنَّهُ إذَا لَمْ يَنْتَقِلْ عَنْهُ بَلْ اسْتَوْطَنَ آخَرَ بِأَنْ اتَّخَذَ لَهُ أَهْلًا فِي الْآخَرِ فَإِنَّهُ يُتِمُّ فِي الْأَوَّلِ كَمَا يُتِمُّ فِي الثَّانِي.
قولهُ: (عَدَّ نَفْسَهُ مِنْ الْمُسَافِرِينَ) هُوَ فِي الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ آنِفًا حَيْثُ قال: «فَإِنَّا قَوْمٌ سَفْرٌ».
قولهُ: (وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ إلَخْ) قِيلَ الْأَوْطَانُ ثَلَاثَةٌ: وَطَنٌ أَصْلِيٌّ وَهُوَ مَوْلِدُ الْإِنْسَانِ أَوْ مَوْضِعٌ تَأَهَّلَ بِهِ وَمَنْ قَصْدُهُ التَّعَيُّشُ بِهِ لَا الِارْتِحَالُ، وَلَوْ تَزَوَّجَ الْمُسَافِرُ فِي بَلَدٍ لَمْ يَنْوِ الْإِقَامَةَ فِيهِ قِيلَ يَصِيرُ مُقِيمًا وَقِيلَ لَا. وَوَطَنُ إقَامَةٍ وَهُوَ مَا يَنْوِي الْإِقَامَةَ فِيهِ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا فَصَاعِدًا عَلَى نِيَّةِ أَنْ يُسَافِرَ بَعْدَ ذَلِكَ. وَوَطَنُ سُكْنَى وَهُوَ مَا يَنْوِي الْإِقَامَةَ بِهِ أَقَلَّ مِنْ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا. وَالْمُحَقِّقُونَ عَلَى عَدَمِ اعْتِبَارِ الثَّالِثِ؛ لِأَنَّهُ يُوصَفُ السَّفَرُ فِيهِ كَالْمَفَازَةِ، وَلِذَا تَرَكَهُ الْمُصَنِّفُ. وَالْأَصْلِيُّ لَا يَنْتَقِضُ إلَّا بِالِانْتِقَالِ عَنْهُ وَاسْتِيطَانِ آخَرَ كَمَا قُلْنَا لَا بِالسَّفَرِ وَلَا بِوَطَنِ الْإِقَامَةِ، وَوَطَنُ الْإِقَامَةِ يَنْتَقِضُ بِالْأَصْلِيِّ وَوَطَنِ الْإِقَامَةِ وَالسَّفَرِ. وَتَقْدِيمُ السَّفَرِ لَيْسَ بِشَرْطٍ لِثُبُوتِ الْأَصْلِيِّ بِالْإِجْمَاعِ، وَهَلْ هُوَ شَرْطٌ لِثُبُوتِ وَطَنِ الْإِقَامَةِ؟ عَنْ مُحَمَّدٍ فِيهِ رِوَايَتَانِ: فِي رِوَايَةٍ لَا يُشْتَرَطُ كَمَا هُوَ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ، وَفِي أُخْرَى إنَّمَا يَصِيرُ الْوَطَنُ وَطَنَ إقَامَةٍ بِشَرْطِ أَنْ يَتَقَدَّمَهُ سَفَرٌ وَيَكُونَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا صَارَ إلَيْهِ مِنْهُ مُدَّةُ سَفَرٍ، حَتَّى لَوْ خَرَجَ مِنْ مِصْرِهِ لَا لِقَصْدِ السَّفَرِ فَوَصَلَ إلَى قَرْيَةٍ وَنَوَى الْإِقَامَةَ بِهَا خَمْسَةَ عَشَرَ لَا تَصِيرُ تِلْكَ الْقَرْيَةُ وَطَنَ إقَامَةٍ، وَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمَا مُدَّةُ سَفَرٍ لِعَدَمِ تَقَدُّمِ السَّفَرِ، وَكَذَا إذَا قَصَدَ مَسِيرَةَ سَفَرٍ وَخَرَجَ فَلَمَّا وَصَلَ إلَى قَرْيَةٍ مَسِيرَتُهَا مِنْ وَطَنِهِ دُونَ مُدَّةِ السَّفَرِ ثُمَّ نَوَى الْإِقَامَةَ بِهَا خَمْسَةَ عَشَرَ لَا يَصِيرُ مُقِيمًا وَلَا تَصِيرُ تِلْكَ الْقَرْيَةُ وَطَنَ إقَامَةٍ. وَالتَّخْرِيجُ عَلَى الرِّوَايَتَيْنِ فِي شَرْحِ الزِّيَادَاتِ: بَغْدَادِيٌّ وَكُوفِيٌّ خَرَجَا مِنْ وَطَنِهِمَا يُرِيدَانِ قَصْرَ ابْنِ هُبَيْرَةَ لِيُقِيمَا بِهِ خَمْسَةَ عَشَرَ، وَبَيْنَ كُوفَةَ وَبَغْدَادَ خَمْسَةُ مَرَاحِلَ وَالْقَصْرُ مُنْتَصَفُ ذَلِكَ، فَلَمَّا قَدِمَاهُ خَرَجَا مِنْهُ إلَى الْكُوفَةِ لِيُقِيمَا بِهَا يَوْمًا ثُمَّ يَرْجِعَا إلَى بَغْدَادَ فَإِنَّهُمَا يُتِمَّانِ الصَّلَاةَ بِهَا إلَى الْكُوفَةِ؛ لِأَنَّ خُرُوجَهُمَا مِنْ وَطَنِهِمَا إلَى الْقَصْرِ لَيْسَ سَفَرًا، وَكَذَا مِنْ الْقَصْرِ إلَى الْكُوفَةِ فَبَقِيَا مُقِيمَيْنِ إلَى الْكُوفَةِ، فَإِنْ خَرَجَا مِنْ الْكُوفَةِ إلَى بَغْدَادَ يَقْصُرَانِ الصَّلَاةَ، وَإِنْ قَصَدَ الْمُرُورَ عَلَى الْقَصْرِ؛ لِأَنَّهُمَا قَصَدَا بَغْدَادَ وَلَيْسَ لَهُمَا وَطَنٌ، أَمَّا الْكُوفِيُّ؛ فَلِأَنَّ وَطَنَهُ بِالْكُوفَةِ نَقَضَ وَطَنَ الْقَصْرِ. وَأَمَّا الْبَغْدَادِيُّ فَعَلَى رِوَايَةِ الْحَسَنِ يُتِمُّ الصَّلَاةَ، وَعَلَى رِوَايَةِ هَذَا الْكِتَابِ: يَعْنِي الزِّيَادَاتِ يَقْصُرُ. وَجْهُ رِوَايَةِ الْحَسَنِ أَنَّ وَطَنَ الْبَغْدَادِيِّ بِالْقَصْرِ صَحِيحٌ؛ لِأَنَّهُ نَوَى الْإِقَامَةَ فِي مَوْضِعِهَا وَلَمْ يُوجَدْ مَا يَنْقُضُهَا، وَقِيَامُ وَطَنِهِ بِالْقَصْرِ يَمْنَعُ تَحَقُّقَ السَّفَرِ. وَجْهُ رِوَايَةِ هَذَا الْكِتَابِ أَنَّ وَطَنَ الْإِقَامَةِ لَا يَكُونُ إلَّا بَعْدَ تَقْدِيمِ السَّفَرِ؛ لِأَنَّ الْإِقَامَةَ مِنْ الْمُقِيمِ لَغْوٌ، وَلَمْ يُوجَدْ تَقْدِيمُ السَّفَرِ فَلَمْ يَصِحَّ وَطَنُهُ بِالْقَصْرِ فَصَارَ مُسَافِرًا إلَى بَغْدَادَ انْتَهَى. وَرِوَايَةُ الْحَسَنِ تُبَيِّنُ أَنَّ السَّفَرَ النَّاقِضَ لِوَطَنِ الْإِقَامَةِ مَا لَيْسَ فِيهِ مُرُورٌ عَلَى وَطَنِ الْإِقَامَةِ أَوْ مَا يَكُونُ الْمُرُورُ فِيهِ بِهِ بَعْدَ سَيْرِ مُدَّةِ السَّفَرِ. وَمِثَالُهُ: فِي دِيَارِنَا قَاهِرِيٌّ خَرَجَ إلَى بُلْبَيْسٍ فَنَوَى الْإِقَامَةَ بِهَا خَمْسَةَ عَشَرَ، ثُمَّ خَرَجَ مِنْهَا إلَى الصَّالِحِيَّةِ، فَلَمَّا دَخَلَهَا بَدَا لَهُ أَنْ يَرْجِعَ إلَى الْقَاهِرَةِ وَيَمُرَّ بِبُلْبَيْسَ، فَعَلَى رِوَايَةِ اشْتِرَاطِ السَّفَرِ بِوَطَنِ الْإِقَامَةِ يَقْصُرُ إلَى الْقَاهِرَةِ، وَعَلَى الْأُخْرَى يُتِمُّ. وَمِثَالُ انْتِقَاضِ وَطَنِ الْإِقَامَةِ بِمِثْلِهِ يُبَيِّنُ مَا قُلْنَا أَيْضًا، وَهُوَ مَا ذَكَرُوهُ مِنْ خُرَاسَانِيٍّ قَدِمَ الْكُوفَةَ وَنَوَى الْإِقَامَةَ بِهَا شَهْرًا ثُمَّ خَرَجَ مِنْهَا إلَى الْحِيرَةِ وَنَوَى الْمُقَامَ بِهَا خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا ثُمَّ خَرَجَ مِنْ الْحِيرَةِ يُرِيدُ الْعَوْدَ إلَى خُرَاسَانَ وَمَرَّ بِالْكُوفَةِ فَإِنَّهُ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ؛ لِأَنَّ وَطَنَهُ بِالْكُوفَةِ كَانَ وَطَنَ إقَامَةٍ، وَقَدْ انْتَقَضَ بِوَطَنِهِ بِالْحِيرَةِ؛ لِأَنَّهُ وَطَنُ إقَامَةٍ مِثْلُهُ، وَكَذَا وَطَنُهُ بِالْحِيرَةِ انْتَقَضَ بِالسَّفَرِ؛ لِأَنَّهُ وَطَنُ إقَامَةٍ فَكَمَا خَرَجَ مِنْ الْحِيرَةِ عَلَى قَصْدِ خُرَاسَانَ صَارَ مُسَافِرًا وَلَا وَطَنَ لَهُ فِي مَوْضِعٍ فَيُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ حَتَّى يَدْخُلَ خُرَاسَانَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ نَوَى الْإِقَامَةَ بِالْحِيرَةِ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا أَتَمَّ الصَّلَاةَ بِالْكُوفَةِ؛ لِأَنَّ وَطَنَهُ بِالْكُوفَةِ لَمْ يَبْطُلْ بِالْخُرُوجِ إلَى الْحِيرَةِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِوَطَنٍ مِثْلِهِ وَلَا سَفَرٍ فَيَبْقَى وَطَنُهُ بِالْكُوفَةِ كَمَا كَانَ. وَلَوْ أَنَّ الْخُرَاسَانِيَّ ارْتَحَلَ مِنْ الْكُوفَةِ يُرِيدُ مَكَّةَ فَقَبْلَ أَنْ يَسِيرَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ذَكَرَ حَاجَةً بِالْكُوفَةِ فَعَادَ فَإِنَّهُ يَقْصُرُ؛ لِأَنَّ وَطَنَهُ بِالْكُوفَةِ بَطَلَ بِالسَّفَرِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ عَزَمَ عَلَى الْعَوْدِ إلَى الْوَطَنِ الْأَصْلِيِّ فَإِنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ بَيْنَ هَذَا الْمَوْضِعِ الَّذِي بَلَغَ إلَيْهِ وَوَطَنِهِ مَسِيرَةُ سَفَرٍ يَصِيرُ مُقِيمًا، وَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمَا مُدَّةُ سَفَرٍ لَا يَصِيرُ مُقِيمًا فَيَقْصُرُ حَتَّى يَدْخُلَ وَطَنَهُ؛ لِأَنَّ الْعَزْمَ فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ تَرْكُ السَّفَرِ، فَنِيَّةُ الْإِقَامَةِ قَبْلَ اسْتِحْكَامِ السَّفَرِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ.
وَفِي الْوَجْهِ الثَّانِي تَرْكُ السَّفَرِ إلَى جِهَةِ قَصْدِهِ إلَى جِهَةٍ أُخْرَى فَبَقِيَ مُسَافِرًا كَمَا كَانَ.
وَفِي النَّوَادِرِ: خَرَجَ مِنْ مِصْرِهِ مُسَافِرًا ثُمَّ افْتَتَحَ لِلصَّلَاةِ فَسَبَقَهُ حَدَثٌ فَلَمْ يَجِدْ الْمَاءَ فَنَوَى أَنْ يَدْخُلَ مِصْرَهُ وَهُوَ قَرِيبٌ صَارَ مُقِيمًا مِنْ سَاعَتِهِ دَخَلَ مِصْرَهُ أَوْ لَمْ يَدْخُلْ؛ لِأَنَّ قَصْدَ الدُّخُولِ تَرْكُ السَّفَرِ فَحَصَلَتْ النِّيَّةُ مُقَارِنَةً لِلْفِعْلِ فَصَحَّتْ، فَإِذَا دَخَلَهُ صَلَّى أَرْبَعًا، فَإِنْ عَلِمَ قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَهُ أَنَّ الْمَاءَ أَمَامَهُ فَمَشَى إلَيْهِ فَتَوَضَّأَ صَلَّى أَرْبَعًا أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ بِالنِّيَّةِ صَارَ مُقِيمًا، فَبِالْمَشْيِ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الصَّلَاةِ أَمَامَهُ لَا يَصِيرُ مُسَافِرًا فِي حَقِّ تِلْكَ الصَّلَاةِ، وَإِنْ قَارَنَتْ النِّيَّةُ فِعْلَ السَّفَرِ حَقِيقَةً؛ لِأَنَّهُ لَوْ جُعِلَ مُسَافِرًا لَفَسَدَتْ؛ لِأَنَّ السَّفَرَ يَمْنَعُ عَنْهُ حُرْمَةَ الصَّلَاةِ، بِخِلَافِ الْإِقَامَةِ؛ لِأَنَّهَا تَرْكُ السَّفَرِ وَحُرْمَةُ الصَّلَاةِ لَا تَمْنَعُهُ عَنْهُ، فَلَوْ تَكَلَّمَ حِينَ عَلِمَ أَنَّ الْمَاءَ أَمَامَهُ أَوْ أَفْسَدَ الصَّلَاةَ بِمُفْسِدٍ ثُمَّ وَجَدَ الْمَاءَ فَتَوَضَّأَ، إنْ وَجَدَهُ فِي مَكَانِهِ صَلَّى أَرْبَعًا، وَإِنْ مَشَى أَمَامَهُ حَتَّى وَجَدَهُ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ؛ لِأَنَّهُ صَارَ مُسَافِرًا ثَانِيًا بِالْمَشْيِ بِنِيَّةِ السَّفَرِ خَارِجَ الصَّلَاةِ، بِخِلَافِ الْمَشْيِ فِي حُرْمَةِ الصَّلَاةِ. وَقَدْ تَكَرَّرَ لَنَا أَنَّ الْمُسَافِرَ يَصِيرُ مُقِيمًا بِنِيَّةِ الْإِقَامَةِ فِي حُرْمَةِ الصَّلَاةِ حَتَّى يُتِمَّ أَرْبَعًا، فَلْنُتْمِمْ الْكَلَامَ فِيهِ بِذِكْرِ مَا يُسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ وَمَا يَتَفَرَّعُ عَلَيْهِ فَنَقول: يَصِيرُ مُقِيمًا بِنِيَّةِ الْإِقَامَةِ فِي الصَّلَاةِ حَتَّى يَتَغَيَّرَ فَرْضُهُ إلَى الرُّبَاعِيَّةِ، إلَّا إنْ خَرَجَ الْوَقْتُ وَهُوَ فِيهَا فَنَوَى الْإِقَامَةَ لِتَقَرُّرِ الْفَرْضِ رَكْعَتَيْنِ بِخُرُوجِ الْوَقْتِ، وَإِلَّا أَنْ يَكُونَ لَاحِقًا فَرَاغَ إمَامِهِ الْمُسَافِرِ ثُمَّ نَوَى الْإِقَامَةَ؛ لِأَنَّ اللَّاحِقَ مُقْتَدٍ حُكْمًا حَتَّى لَا يَقْرَأَ وَلَا يَسْجُدَ لِلسَّهْوِ، فَفَرَاغُ الْإِمَامِ كَأَنَّهُ فَرَاغُهُ وَبِهِ يَسْتَحْكِمُ الْفَرْضُ وَلَمْ يَبْقَ مُحْتَمِلًا لِلتَّغَيُّرِ فِي حَقِّ الْإِمَامِ، فَكَذَا فِي حَقِّ اللَّاحِقِ، بِخِلَافِ الْمَسْبُوقِ. وَإِذَا عُرِفَ هَذَا فَلَوْ نَوَاهَا بَعْدَمَا قَعَدَ قَدْرَ التَّشَهُّدِ وَلَمْ يُسَلِّمْ تَغَيَّرَ، وَكَذَا لَوْ كَانَ قَامَ إلَى الثَّالِثَةِ سَاهِيًا قَعَدَ أَوَّلًا فَنَوَاهَا قَبْلَ أَنْ يَسْجُدَ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَخْرُجْ عَنْ الْمَكْتُوبَةِ قَبْلَ النِّيَّةِ إلَّا أَنَّهُ يُعِيدُ الْقِيَامَ وَالرُّكُوعَ؛ لِأَنَّهُمَا نَفْلٌ فَلَا يَنُوبَانِ عَنْ الْفَرْضِ، فَإِنْ لَمْ يَنْوِ حَتَّى سَجَدَ لَا يَتَغَيَّرُ؛ لِأَنَّ النِّيَّةَ وُجِدَتْ بَعْدَ خُرُوجِهِ مِنْهُ، وَلَكِنَّهُ يُضِيفُ إلَيْهَا أُخْرَى؛ لِيَكُونَ التَّطَوُّعُ بِرَكْعَتَيْنِ فِيمَا إذَا كَانَ قَعَدَ وَبِأَرْبَعٍ فِيمَا إذَا لَمْ يَكُنْ قَعَدَ لِمَا عُرِفَ فِي سُجُودِ السَّهْوِ عِنْدَهُمَا، وَلَا يَضُمُّ عِنْدَ مُحَمَّدٍ لِفَسَادِ أَصْلِ الصَّلَاةِ بِفَسَادِ الْفَرْضِيَّةِ، وَلَوْ أَنَّ مُسَافِرًا صَلَّى الظُّهْرَ رَكْعَتَيْنِ وَتَرَكَ الْقِرَاءَةَ فِيهِمَا أَوْ فِي إحْدَاهُمَا وَتَشَهَّدَ ثُمَّ نَوَاهَا قَبْلَ السَّلَامِ أَوْ قَامَ إلَى الثَّالِثَةِ ثُمَّ نَوَاهَا قَبْلَ أَنْ يَسْجُدَ تَحَوَّلَ فَرْضُهُ أَرْبَعًا عِنْدَهُمَا وَيَقْرَأُ فِي الْأُخْرَيَيْنِ قَضَاءً عَنْ الْأُولَيَيْنِ. وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ تَفْسُدُ صَلَاتُهُ لِمَا مَرَّ مِنْ فَسَادِ الصَّلَاةِ عِنْدَهُ بِتَرْكِ الْقِرَاءَةِ فِي رَكْعَةٍ، وَكَانَ الْقِيَاسُ عَلَى قول أَبِي حَنِيفَةَ أَنْ تَفْسُدَ لِمَا سَلَفَ لَهُ مِنْ فَسَادِهَا بِتَرْكِهَا فِي رَكْعَتَيْنِ، لَكِنَّهُ اسْتَحْسَنَ هُنَا فَقَالَ بِبَقَاءِ التَّحْرِيمَةِ، وَإِنْ تُرِكَتْ الْقِرَاءَةُ فِي الرَّكْعَتَيْنِ؛ لِأَنَّ صَلَاةَ الْمُسَافِرِ بِعَرَضِ أَنْ تَلْحَقَهَا مَدَدُ نِيَّةِ الْإِقَامَةِ فَيَقْضِي الْقِرَاءَةَ فِي الْبَاقِي فَلَا يَتَحَقَّقُ تَقَرُّرُ الْمُفْسِدِ إلَّا بِالْخُرُوجِ عَنْ تِلْكَ الصَّلَاةِ، بِخِلَافِ فَجْرِ الْمُقِيمِ، وَلَا يُشْكِلُ لَوْ نَوَاهَا بَعْدَ السُّجُودِ أَنَّهَا تَفْسُدُ بِالْإِجْمَاعِ، وَلَوْ نَوَاهَا بَعْدَ السَّلَامِ وَعَلَيْهِ سَهْوٌ تَقَدَّمَ أَنَّهُ يَتَغَيَّرُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ خِلَافًا لَهُمَا بِنَاءً عَلَى أَنَّ سَلَامَ مَنْ عَلَيْهِ السَّهْوُ يُخْرِجُهُ أَوْ لَا؟

متن الهداية:
(وَإِذَا نَوَى الْمُسَافِرُ أَنْ يُقِيمَ بِمَكَّةَ وَمِنًى خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا لَمْ يُتِمَّ الصَّلَاةَ)؛ لِأَنَّ اعْتِبَارَ النِّيَّةِ فِي مَوْضِعَيْنِ يَقْتَضِي اعْتِبَارَهَا فِي مَوَاضِعَ، وَهُوَ مُمْتَنِعٌ؛ لِأَنَّ السَّفَرَ لَا يُعَرَّى عَنْهُ إلَّا إذَا نَوَى الْمُسَافِرُ أَنْ يُقِيمَ بِاللَّيْلِ فِي أَحَدِهِمَا فَيَصِيرَ مُقِيمًا بِدُخُولِهِ فِيهِ؛ لِأَنَّ إقَامَةَ الْمَرْءِ مُضَافَةٌ إلَى مَبِيتِهِ. (وَمَنْ فَاتَتْهُ صَلَاةٌ فِي السَّفَرِ قَضَاهَا فِي الْحَضَرِ رَكْعَتَيْنِ، وَمَنْ فَاتَتْهُ فِي الْحَضَرِ قَضَاهَا فِي السَّفَرِ أَرْبَعًا)؛ لِأَنَّ الْقَضَاءَ بِحَسَبِ الْأَدَاءِ، وَالْمُعْتَبَرُ فِي ذَلِكَ آخِرُ الْوَقْتِ؛ لِأَنَّهُ الْمُعْتَبَرُ فِي السَّبَبِيَّةِ عِنْدَ عَدَمِ الْأَدَاءِ فِي الْوَقْتِ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (لِأَنَّهُ) أَيْ آخِرَ الْوَقْتِ هُوَ الْمُعْتَبَرُ فِي السَّبَبِيَّةِ فِي حَقِّ الْمُكَلَّفِ؛ لِأَنَّهُ أَوَانُ تَقَرُّرِهِ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ، وَصِفَةُ الدَّيْنِ تُعْتَبَرُ حَالَ تَقَرُّرِهِ كَمَا فِي حُقُوقِ الْعِبَادِ، وَأَمَّا اعْتِبَارُ كُلِّ الْوَقْتِ إذَا خَرَجَ فِي حَقِّهِ فَلِيُثْبِتَ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ بِصِفَةِ الْكَمَالِ إذْ الْأَصْلُ فِي أَسْبَابِ الْمَشْرُوعَاتِ أَنْ تُطْلَبَ الْعِبَادَاتُ كَامِلَةً، وَإِنَّمَا تُحْمَلُ نَقْصُهَا لِعُرُوضِ تَأْخِيرِهِ إلَى الْجُزْءِ النَّاقِضِ مَعَ تَوَجُّهِ طَلَبِهَا فِيهِ إذَا عَجَزَ عَنْ أَدَائِهَا قَبْلَهُ، وَبِخُرُوجِهِ عَنْ غَيْرِ إدْرَاكٍ لَمْ يَتَحَقَّقْ ذَلِكَ الْعَارِضُ فَكَانَ الْأَمْرُ عَلَى الْأَصْلِ مِنْ اعْتِبَارِ وَقْتِ الْوُجُوبِ.
وَقَالَ زُفَرُ: إذَا سَافَرَ وَقَدْ بَقِيَ مِنْ الْوَقْتِ قَدْرُ مَا يُمْكِنُهُ أَنْ يُصَلِّيَ فِيهِ صَلَاةَ السَّفَرِ يَقْضِي صَلَاةَ السَّفَرِ، وَإِنْ كَانَ الْبَاقِي دُونَهُ صَلَّى صَلَاةَ الْمُقِيمِ لِمَا عُلِمَ مِنْ أَنَّ مَذْهَبَهُ أَنَّ السَّبَبِيَّةَ لَا تَنْتَقِلُ مِنْ ذَلِكَ الْجُزْءِ، وَعِنْدَنَا تَنْتَقِلُ إلَى الَّذِي يَسَعُ التَّحْرِيمَةَ وَقَدْ أَسْلَفْنَاهُ، وَعَلَى هَذَا قَالُوا فِيمَنْ صَلَّى الظُّهْرَ وَهُوَ مُقِيمٌ أَرْبَعًا ثُمَّ سَافَرَ وَصَلَّى الْعَصْرَ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ تَذَكَّرَ أَنَّهُ تَرَكَ شَيْئًا فِي مَنْزِلِهِ فَرَجَعَ فَتَذَكَّرَ أَنَّهُ صَلَّى الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ بِلَا طَهَارَةٍ فَإِنَّهُ يُصَلِّي الظُّهْرَ رَكْعَتَيْنِ وَالْعَصْرَ أَرْبَعًا؛ لِأَنَّ صَلَاةَ الظُّهْرِ صَارَتْ كَأَنَّهَا لَمْ تَكُنْ وَصَارَتْ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ فِي آخِرِ وَقْتِهَا وَهُوَ مُسَافِرٌ فِيهِ فَصَارَتْ فِي ذِمَّتِهِ صَلَاةَ السَّفَرِ، بِخِلَافِ الْعَصْرِ فَإِنَّهُ خَرَجَ وَقْتُهَا وَهُوَ مُقِيمٌ، وَلَا يُشْكِلُ عَلَى هَذَا الْمَرِيضُ إذَا فَاتَتْهُ صَلَاةٌ فِي مَرَضِهِ الَّذِي لَا يَقْدِرُ فِيهِ عَلَى الْقِيَامِ فَإِنَّهُ يَجِبُ أَنْ يَقْضِيَهَا فِي الصِّحَّةِ قَائِمًا؛ لِأَنَّ الْوُجُوبَ بِقَيْدِ الْقِيَامِ غَيْرَ أَنَّهُ رُخِّصَ لَهُ أَنْ يَفْعَلَهَا حَالَةَ الْعُذْرِ بِقَدْرِ وُسْعِهِ إذْ ذَاكَ، فَحَيْثُ لَمْ يُؤَدِّهَا حَالَةَ الْعُذْرِ زَالَ سَبَبُ الرُّخْصَةِ فَتَعَيَّنَ الْأَصْلُ، وَلِذَلِكَ يَفْعَلُهَا الْمَرِيضُ قَاعِدًا إذَا فَاتَتْ عَنْ زَمَنِ الصِّحَّةِ، أَمَّا صَلَاةُ الْمُسَافِرِ فَإِنَّهَا لَيْسَتْ إلَّا رَكْعَتَيْنِ ابْتِدَاءً، وَمَنْشَأُ الْغَلَطِ اشْتِرَاكُ لَفْظِ الرُّخْصَةِ.

متن الهداية:
(وَالْعَاصِي وَالْمُطِيعُ فِي سَفَرِهِمَا فِي الرُّخْصَةِ سَوَاءٌ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: سَفَرُ الْمَعْصِيَةِ لَا يُفِيدُ الرُّخْصَةَ؛ لِأَنَّهَا تَثْبُتُ تَخْفِيفًا فَلَا تَتَعَلَّقُ بِمَا يُوجِبُ التَّغْلِيظَ، وَلَنَا إطْلَاقُ النُّصُوصِ، وَلِأَنَّ السَّفَرَ لَيْسَ بِمَعْصِيَةٍ، وَإِنَّمَا الْمَعْصِيَةُ مَا يَكُونُ بَعْدَهُ أَوْ يُجَاوِرُهُ فَصَلُحَ مُتَعَلَّقُ الرُّخْصَةِ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (فَلَا تَتَعَلَّقُ بِمَا يُوجِبُ التَّغْلِيظَ) يَعْنِي الْمَعْصِيَةَ؛ وَهَذَا لِأَنَّ قَصْدَ قَطْعِ الطَّرِيقِ، وَقِتَالَ الْإِمَامِ الْعَدْلِ، وَالْإِبَاقَ لِلْعَبْدِ وَعَدَمَ الْمَحْرَمِ، وَقِيَامَ الْعِدَّةِ لِلْمَرْأَةِ يُوجِبُ صَيْرُورَةَ نَقْلِ الْخَطَإِ مَعْصِيَةً فَيَمْنَعُ الرُّخْصَةَ قِيَاسًا عَلَى قُطَّاعِ الطَّرِيقِ فِي مَنْعِهِمْ مِنْ صَلَاةِ الْخَوْفِ إذَا خَافُوا الْإِمَامَ وَعَلَى زَوَالِ الْعَقْلِ بِمَحْظُورِ عَدَمِ سُقُوطِ الْخِطَابِ. وَلَنَا إطْلَاقُ النُّصُوصِ: أَيْ نُصُوصِ الرُّخْصَةِ قَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسلام: «يَمْسَحُ الْمُسَافِرُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَلَيَالِيهَا» وَمَا قَدَّمْنَا مِنْ الْأَحَادِيثِ الْمُفِيدَةِ تَعْلِيقَ الْقَصْرِ عَلَى مُسَمَّى السَّفَرِ فَوَجَبَ إعْمَالُ إطْلَاقِهَا إلَّا بِمُقَيِّدٍ وَلَمْ يُوجَدْ، أَمَّا نَصُّ الْكِتَابِ؛ فَلِأَنَّهُ لَوْ تَمَّ الْقِيَاسُ الَّذِي عَيَّنَهُ لَمْ يَصْلُحْ مُقَيِّدًا لَهُ عِنْدَنَا فَكَيْفَ وَلَمْ يَتِمَّ فَلَا يَصْلُحُ مُقَيِّدًا لَهُ وَلَا لِغَيْرِهِ مِنْ الْأَحَادِيثِ وَذَلِكَ لِاخْتِلَافِ الْجَامِعِ فَإِنَّ الْمُؤَثِّرَ فِي أَصْلِهِ فِي مَنْعِ الرُّخْصَةِ عَدَمُ سَبَبِهَا، وَذَلِكَ أَنَّ سَبَبَ الرُّخْصَةِ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مُبَاحًا، وَهُوَ فِي صَلَاةِ الْخَوْفِ الْخَوْفُ وَهُوَ فِي قُطَّاعِ الطَّرِيقِ سَبَبٌ عَنْ نَفْسِ الْمَعْصِيَةِ: أَعْنِي قَطْعَ الطَّرِيقِ. وَسَبَبُ السَّبَبِ سَبَبٌ، فَلَوْ ثَبَتَتْ الرُّخْصَةُ أَعْنِي جَوَازَ صَلَاةِ الْخَوْفِ لَهُمْ كَانَتْ الْمَعْصِيَةُ نَفْسُهَا هِيَ الْمُوجِبَةَ لِلتَّخْفِيفِ، وَكَذَا زَوَالُ الْعَقْلِ هُوَ السَّبَبُ وَهُوَ مُسَبَّبٌ عَنْ الْمَعْصِيَةِ نَفْسِهَا: أَعْنِي شُرْبَ الْمُسْكِرِ إلَى آخِرِ مَا قَرَّرْنَاهُ، بِخِلَافِ مَا نَحْنُ فِيهِ فَإِنَّ السَّبَبَ السَّفَرُ وَلَيْسَ هُوَ مُسْتَنِدٌ إلَى قَطْعِ الطَّرِيقِ، فَإِنَّ الَّذِي صَيَّرَهُ مُسَافِرًا لَيْسَ قَطْعُ الطَّرِيقِ بَلْ الشُّرُوعُ فِي السَّيْرِ الْمَخْصُوصِ لَا بِاعْتِبَارِ الطَّرِيقِ أَصْلًا فَعَرِيَ السَّبَبُ فِي نَفْسِهِ عَنْ الْمَعْصِيَةِ وَكَانَتْ هِيَ مُجَاوِرَةٌ لَهُ، وَذَلِكَ غَيْرُ مَانِعٍ مِنْ اعْتِبَارِ مَا جَاوَرَهُ شَرْعًا كَالصَّلَاةِ فِي الْمَغْصُوبَةِ وَالْمَسْحِ عَلَى خُفٍّ مَغْصُوبٍ وَالْبَيْعِ وَقْتَ النِّدَاءِ وَكَثِيرٍ مِنْ النَّظَائِرِ، وَهَذَا بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالسَّبَبِ الْفَاعِلِيُّ لَا الْغَائِيُّ.
فُرُوعٌ:
التَّبَعُ كَالْعَبْدِ وَالْغُلَامِ وَالْجُنْدِيِّ وَالْمَرْأَةِ إذَا وَفَّاهَا مَهْرَهَا وَالْأَجِيرِ وَالتِّلْمِيذِ وَالْأَسِيرِ وَالْمُكْرَهِ تُعْتَبَرُ نِيَّةُ الْإِقَامَةِ وَالسَّفَرِ مِنْ مَتْبُوعِهِمْ دُونَهُمْ فَيَصِيرُونَ مُقِيمِينَ وَمُسَافِرِينَ بِنِيَّتِهِمْ، وَلَوْ نَوَى الْمَتْبُوعُ الْإِقَامَةَ وَلَا يَعْلَمُونَ اخْتَلَفُوا فِي وَقْتِ لُزُومِهِمْ حُكْمَ الْإِقَامَةِ فَقِيلَ مِنْ وَقْتِ نِيَّةِ الْمَتْبُوعِينَ، وَقِيلَ مِنْ وَقْتِ عِلْمِهِمْ كَمَا فِي تَوَجُّهِ خِطَابِ الشَّرْعِ وَعَزْلِ الْوَكِيلِ، وَالْأَحْوَطُ الْأَوَّلُ فَيَكُونُ كَالْعَزْلِ الْحُكْمِيِّ فَيَقْضُونَ مَا صَلَّوْا قَصْرًا قَبْلَ عِلْمِهِمْ، وَفِي الْعَبْدِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَ مُسَافِرٍ وَمُقِيمٍ، قِيلَ يُتِمُّ، وَقِيلَ يَقْصُرُ، وَقِيلَ إنْ كَانَ بَيْنَهُمَا مُهَايَأَةٌ فِي الْخِدْمَةِ قَصَرَ فِي نَوْبَةِ الْمُسَافِرِ وَأَتَمَّ فِي نَوْبَةِ الْمُقِيمِ، وَيَتَفَرَّعُ عَلَى اعْتِبَارِ النِّيَّةِ مِنْ الْمَتْبُوعِ أَنَّ الْعَبْدَ لَوْ أَمَّ سَيِّدَهُ فِي السَّفَرِ فَنَوَى السَّيِّدُ الْإِقَامَةَ صَحَّتْ، حَتَّى لَوْ سَلَّمَ الْعَبْدُ عَلَى رَأْسِ الرَّكْعَتَيْنِ فَسَدَتْ صَلَاتُهُمَا. وَكَذَا لَوْ بَاعَهُ مِنْ مُقِيمٍ حَالَ سَفَرِهِ وَالْعَبْدُ فِي الصَّلَاةِ فَسَلَّمَ عَلَى رَأْسِ الرَّكْعَتَيْنِ فَسَدَتْ، وَلَوْ كَانَ الْعَبْدُ أَمَّ مَعَ السَّيِّدِ غَيْرَهُ مِنْ الْمُسَافِرِينَ فَنَوَى السَّيِّدُ الْإِقَامَةَ صَحَّتْ نِيَّتُهُ فِي حَقِّ عَبْدِهِ لَا فِي حَقِّ الْقَوْمِ فِي قول مُحَمَّدٍ، فَيُقَدِّمُ الْعَبْدُ عَلَى رَأْسِ الرَّكْعَتَيْنِ وَاحِدًا مِنْ الْمُسَافِرِينَ لِيُسَلِّمَ بِهِمْ ثُمَّ يَقُومُ هُوَ وَالسَّيِّدُ فَيُتِمُّ كُلٌّ مِنْهُمَا أَرْبَعًا، وَهُوَ نَظِيرُ مَا إذَا صَلَّى مُسَافِرٌ بِمُقِيمِينَ وَمُسَافِرِينَ فَأَحْدَثَ فَقُدِّمَ مُقِيمٌ لَا يَنْقَلِبُ فَرْضُ الْقَوْمِ أَرْبَعًا، وَهِيَ الْمَسْأَلَةُ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا فِي بَابِ الْحَدَثِ فِي الصَّلَاةِ، ثُمَّ بِمَاذَا يَعْلَمُ الْعَبْدُ؟ قِيلَ يَنْصِبُ الْمَوْلَى أُصْبُعَيْهِ أَوَّلًا وَيُشِيرُ بِأُصْبُعِهِ ثُمَّ يَنْصِبُ الْأَرْبَعَ وَيُشِيرُ بِهَا.
وَفِي حُكْمِ الْأَسِيرِ مَنْ بَعَثَ إلَيْهِ الْوَالِي لِيُؤْتَى بِهِ مِنْ بَلْدَةٍ، وَالْغَرِيمُ إذَا لَزِمَهُ غَرِيمُهُ أَوْ حَبَسَهُ إنْ كَانَ قَادِرًا عَلَى أَدَاءِ مَا عَلَيْهِ وَمَنْ قَصَدَهُ أَنْ يَقْضِيَ دَيْنَهُ قَبْلَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا فَالنِّيَّةُ فِي السَّفَرِ وَالْإِقَامَةِ نِيَّتُهُ، وَإِلَّا فَنِيَّةُ الْحَابِسِ، وَلَوْ أَسْلَمَ كَافِرٌ مُسَافِرٌ أَوْ بَلَغَ صَبِيٌّ مُسَافِرٌ اُخْتُلِفَ فِيهِمَا، فَالشَّيْخُ أَبُو بَكْرِ بْنُ الْفَضْلِ عَلَى أَنَّهُ إنْ كَانَ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الْمَقْصِدِ أَقَلُّ مِنْ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ كَانَا مُقِيمَيْنِ، وَقِيلَ يُصَلِّيَانِ رَكْعَتَيْنِ، وَقِيلَ الصَّبِيُّ إذَا بَلَغَ يُصَلِّي أَرْبَعًا وَالْكَافِرُ إذَا أَسْلَمَ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ نِيَّةَ الْكَافِرِ مُعْتَبَرَةٌ، وَلَا يَجْمَعُ عِنْدَنَا فِي سَفَرٍ بِمَعْنَى أَنْ يُصَلِّيَ الْعَصْرَ مَعَ الظُّهْرِ فِي وَقْتِ إحْدَاهُمَا وَالْمَغْرِبَ مَعَ الْعِشَاءِ كَذَلِكَ خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ، بَلْ بِأَنْ يُؤَخِّرَ الْأُولَى إلَى آخِرِ وَقْتِهَا فَيَنْزِلُ فَيُصَلِّيهَا فِي آخِرِهِ وَيَفْتَتِحُ الْآتِيَةَ فِي أَوَّلِ وَقْتِهَا، وَهَذَا جَمْعٌ فِعْلًا لَا وَقْتًا. لَنَا مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: «مَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى صَلَاةً لِغَيْرِ وَقْتِهَا إلَّا بِجَمْعٍ، فَإِنَّهُ جَمَعَ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ بِجَمْعٍ، وَصَلَّى صَلَاةَ الصُّبْحِ مِنْ الْغَدِ قَبْلَ وَقْتِهَا» يَعْنِي غَلَّسَ بِهَا فَكَانَ قَبْلَ وَقْتِهَا الْمُعْتَادِ فِعْلُهَا فِيهِ مِنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَأَنَّهُ تَرَكَ جَمْعَ عَرَفَةَ لِشُهْرَتِهِ. وَمَا فِي مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ لَيْلَةِ التَّعْرِيسِ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «لَيْسَ فِي النَّوْمِ تَفْرِيطٌ، إنَّمَا التَّفْرِيطُ فِي الْيَقَظَةِ أَنْ يُؤَخِّرَ الصَّلَاةَ حَتَّى يَدْخُلَ وَقْتُ صَلَاةٍ أُخْرَى» فَيُعَارِضُ مَا فِيهِمَا حَدِيثُ أَنَسٍ «أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إذَا عَجِلَ بِهِ السَّيْرُ يُؤَخِّرُ الظُّهْرَ إلَى أَوَّلِ وَقْتِ الْعَصْرِ فَيَجْمَعُ بَيْنَهُمَا، وَيُؤَخِّرُ الْمَغْرِبَ حَتَّى يَجْمَعَ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الْعِشَاءِ حِينَ يَغِيبُ الشَّفَقُ» وَفِي لَفْظٍ لَهُمَا عَنْ ابْنِ عُمَرَ «كَانَ إذَا عَجِلَ السَّيْرُ السَّفَرَ جَمَعَ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ بَعْدَ أَنْ يَغِيبَ الشَّفَقُ» وَيَتَرَجَّحُ حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ بِزِيَادَةِ فِقْهِ الرَّاوِي، وَبِأَنَّهُ أَحْوَطُ فَيُقَدَّمُ عِنْدَ التَّعَارُضِ، أَوْ يُحْمَلُ الشَّفَقُ الْمَذْكُورُ عَلَى الْحُمْرَةِ فَإِنَّهُ مُشْتَرِكٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْبَيَاضِ الَّذِي يَلِي أَطْرَافَهُ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ، فَيَكُونُ حِينَئِذٍ عَيْنَ مَا قُلْنَاهُ مِنْ أَنْ يَنْزِلَ فِي آخِرِ الْوَقْتِ فَيُصَلِّيَ الْوَقْتِيَّةَ فِيهِ ثُمَّ يَسْتَقْبِلَ الثَّانِيَةَ فِي أَوَّلِ وَقْتِهَا. وَقَدْ وَقَعَ فِي أَحَادِيثِ الْجَمْعِ شَيْءٌ مِنْ الِاضْطِرَابِ؛ فَفِي بَعْضِهَا عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا «جَمَعَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ وَالْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ مِنْ غَيْرِ خَوْفٍ وَلَا سَفَرٍ» وَفِي بَعْضِهَا «جَمَعَ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ وَالْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ بِالْمَدِينَةِ مِنْ غَيْرِ خَوْفٍ وَلَا مَطَرٍ» قِيلَ لِابْنِ عَبَّاسٍ: مَا أَرَادَ إلَى ذَلِكَ؟ قَالَ: أَرَادَ أَنْ لَا يُحْرِجَ أُمَّتَهُ، وَلَمْ يَقُلْ مِنَّا وَمِنْهُمْ بِجَوَازِ الْجَمْعِ لِذَلِكَ أَحَدٌ وَكَيْفَ، وَمَا تَقَدَّمَ مِنْ حَدِيثِ لَيْلَةِ التَّعْرِيسِ يُعَارِضُهُ مُعَارَضَةً ظَاهِرَةً.